الأحد 2021/09/19

آخر تحديث: 09:58 (بيروت)

خلل الصحة العقلية..كأحد عوارض الانهيار اللبناني

الأحد 2021/09/19
خلل الصحة العقلية..كأحد عوارض الانهيار اللبناني
increase حجم الخط decrease
بالتوازي مع المعادلة التي تربط بين ارتفاع معدلات الفقر وارتفاع معدلات الجريمة، ثمة معادلة اخرى، تربط بين ارتفاع معدلات التأزم، والتمشكل العام (تحول شيء ما إلى مشكلة)، وارتفاع معدلات الخلال العقلية (جمع خلل). فقد رافق الانهيار اللبناني حديث مستمر عن كونه يؤدي إلى إعطاب في الصحة العقلية للمعرضين له، أو للذين يعيشونه.
أول التوقف على هذه المعادلة يحمل إلى التنبه، إلى التصور، الذي تقدمه عن الصحة العقلية. فهذه الصحة فعلياً هي في علاقة مع مجموع المواقف والظروف المحيطة، الذي، وحين يكون مستقراً، يحققها، كما لو انها مجرد امتداد له. فالصحة هذه شرطها الاستقرار، بما هو نتيجة ذلك المجموع، الذي ينتجه نظامه، وعندما لا يعود هذا الاستقرار على حاله، تنقلب تلك الصحة إلى عكسها. ما عكس الصحة العقلية هنا؟ لا يمكن الإجابة على هذا الاستفهام من دون فعل ذلك حيال غيره، وهو ما عكس الاستقرار، أو ما عكس نظامه؟ يتشكل كاضطراب، كفوضى الخ. فالصحة العقلية، ومع "ضرب" الاستقرار، ونظامه، تتلقى أيضاً ضربه هذا، وتترك مكانها لاشكاله تلك فيها، أو في موضوعها، اي العقل، وفي فعله، اي التعقلن. من هنا، تصير الصحة العقلية بمثابة مؤشر إلى الاستقرار، فكلما حضرت من دون اضطراب، يعني ذلك أنه متحقق. بالطبع، الاستقرار، أو بالتحديد نظامه، وحين يبغي الاشارة إلى أنه على ذلك التحقق يشير الى تلك الصحة العقلية، أو يصنعها عبر مؤسسته. هذا ما يحيل الى ما اخبره سامي ريشا في كتابه حول الطب النفسي اللبناني، بحيث أن مشفى العصفورية كان يدفع مبلغ خمسين ليرة لمن كان يصطحب شخصاً ما اليه. فبهذه المكافأة، كان المشفى يدفع مقابل مدّه بمن سيغدون مرضاه، إذ ينتجهم على هذا الاساس، قبل أن يصنع صحتهم العقلية، أو يدمجهم في الصحة العقلية، التي تكون علامة على الاستقرار.


ولكن، التصور، الذي تقدمه المعادلة اياها عن الصحة العقلية لا يتوقف عند حد جعلها امتداداً للاستقرار- كل ضرب له يعني "انضرابها"- فقط، إنما يتعداه إلى جعلها صحة، سمتها الرئيسية انها قوية ومتينة للغاية. إذ أنها لا تنطوي على اعطاب واضطرابات سوى بسبب انعدام الاستقرار ذلك، بما هو كارثة أو انهيار أو أي شيء من هذا القبيل. بالتالي، هي ليست هشة، إنما، ولكسرها اذا صح التعبير، يستلزم ذلك واقعة كبيرة. فوجودها يقوم بنفي اي هشاشة منها، وهذا، فعلياً، ما يبدو، وبطريقة من الطرق، ضدها، ضد الصحة نفسها. إذ إنها مسكونة بالهشاشة، بمعنى أنها على علاقة محددة معها: لا تقوم باستئصالها، إنما، وعلى العكس، هي إثبات لها. نفي الهشاشة من الصحة، لتكون هيكل القوة والمتانة، لا يجعلها امتداداً للاستقرار فقط، إنما، وقبل ذلك، جهاز من اجهزة نظامه: الصحة العقلية الصلبة التي لا يهزمها سوى انعدام الاستقرار.

وغير دقيق تصوير الصحة هكذا. فهناك "صحات" عقلية، بمعنى أن كل شخص له صحته، التي تختلف عن صحة سواه. فيمكن لصحة ان تتأثر بانعدام الاستقرار بالتأكيد، ليكون اثره فيها يشبه اطاحة بها، ويمكن لا بتاتاً، بحيث أن صحة ما قد لا تتأثر بذلك الانعدام. وهذا، في وقت ان كلمة بسيطة من هنا أو عبارة طائشة من هناك قد تترك فيها مفعولاً يشبه الزلزال. في الوقت نفسه، قد يكون انعدام الاستقرار لصحة ما بمثابة سياق لتمكنها من تعافيها. على هذا النحو، كان الطبيب والمحلل النفسي فرنسوا توسكيليس قد تكلم ذات مرة عن الأثر العيادي للحرب الاهلية في اسبانيا، بحيث أنها اعانت مذهونين (psychotiques) على الخروج من حالاتهم، كما لو أنها كانت هي المشفى عندها.

في الواقع، إحكام الربط بين الصحة العقلية ومجموع الظروف والمواقف المحيطة مثلما تفعل المعادلة ذاتها لم يكن سوى ردٍ على المغالاة في إبعاد الطرفين عن بعضهما البعض. هذا الإبعاد كان سبيلا الى تقديم صحة عقلية قائمة بذاتها، لا يأخذ استشفاؤها في اعتباره وقع اي ظرف أو موقف من ذلك المجموع عليها. ولكن، الرد على ذلك الإبعاد سرعان ما صار يشبهه من ناحية مغالاته في تقديم صحة عقلية قائمة بالمجموع نفسه، وباستقراره على وجه الدقة. فالصحة العقلية التي لا تحيطها مواقف وظروف هي بمثابة الوجه الثاني للصحة العقلية بما هي امتداد لاستقرار هذه المواقف والظروف. إنهما تصوران عن الصحة، واحد يعزلها، وثاني يخرطها أو يذوبها، تصوران لا صحة كاملة فيهما، إنما، هي، ومن بينهما، تخرج بهشاشة، وهذه الهشاشة هي كل إمكانها. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها