الأحد 2021/08/08

آخر تحديث: 14:56 (بيروت)

لماذا لم تعد الأجيال تقرأ حنا مينه؟

الأحد 2021/08/08
لماذا لم تعد الأجيال تقرأ حنا مينه؟
حنا مينه
increase حجم الخط decrease
"الفن يجب أن يكون فناً أولاً، وبعد ذلك يمكن أن يكون تعبيراً عن روح وجيشان المجتمع في عصر محدد"

(بلنسكي)

 تغيرت خريطة المكتبات السورية في السنوات الأخيرة؛ فقلما تشاهد رواجاً لرواية سورية، أو حتى وجودها. وأكثر الروايات التي لاقت انتشاراً كانت لكتَّاب سوريين حديثين قد منعت في سورية، ومنع تداولها؛ إذ يبدو تاريخ الأدب السوري منقسماً منذ بدء الثورة من حيث انتشاره؛ فالمواضيع تقسِّم سورية، مثلما تقسِّمها الأفكار.

لا يمكن الحديث عن تاريخ الثقافة السورية، من دون الحديث عن حنا مينه. الذي تبدو رواياته أقل وجوداً في المكتبات السورية وبالتالي أقل طلباً. تختفي روايات حنا مينه من سوق الكتب، ولا يقوم مقرصنو الكتب، بإعادة طباعتها. هل لهذا دلالة على شيء ما؟ لمَ لا يقرأ الجيل الجديد حنا مينه، ولمَ يختفي من المكتبات؟

يشكل أدب حنا مينه تاريخاً للأدب السوريّ؛ النزعة الإيديولوجية والواقعية لنوع الأدب الذي قدمه، أضف إلى ذلك تاريخ المجتمع السوري في مرحلتي الاستعمار، والاستقلال. أدب مينه يليق بوصفه تاريخاً لنوع أدبي -وهذه ميزة ونقيصة في آنٍ واحد- يكون فيه الذاتي والإنساني والاجتماعي مصقولاً في الأدب، أو حتى تبدو المحاولة الحسية للروائي شديدة القولبة والتحديد  داخل بيئته ومنظومة أفكاره. حنا مينه هو الكاتب الذاتي بامتياز؛ فما رواه كان محيطاً به وضمن واقعه، لكن بلمسة فنية مُعينة ومحدودة.

صعد حنا مينه درج الرواية شيئاً فشيئاً ضمن عالم الكتابة؛ فكانت الصحافة والقصة القصيرة هما البداية التقليدية لكتاب الأدب السوريين والعرب في القرن العشرين، لتتصاعد بعدها درجة الجرأة في الكتابة نحو أدب الرواية والقصة الطويلة. تدور آلية الكتابة عند حنا مينه حول شخصية البطل السياقي دوماً؛ فالسياق الذي يأخذه مينه يأخذ الشخصيات في رحلة محدودة؛ أ] البطولة الفردية، أمام حالة ظلم اجتماعي، ثمّ نحو خلاص يكون فيه الأخ الأكبر موجوداً أو محتمل الوجود. جدلية الواقع كما يراها حنا مينه، وكما يراها القارئ له تبدو محدودة؛ ليس لبقائه ضمن إطار المكان والبيئة فقط، وانحسار مستوى مخيلته وارتباط أخلاقياته الإيديولوجية بالسياق اليومي والسياسي العام، بل أيضاً لظن مينه أن العامل الاجتماعي الواقعي هو قضية يُمكن تبنيها للأبد، وكأن العصور كلها صراعٌ للبشر مع ما يبدو بديهياً وأبديّاً؛ الاستعمار، الإقطاع، البرجوازية، البروليتاريا.

حاول مينه دائماً رصد المجتمع بوصفه قادراً على الخلق والحياة في مواجهة ما لا يبدو بشرياً بل قاسياً ومفروضاً. في رواياته الأولى والأكثر شهرة "المصابيح الزرق" و"الشراع والعاصفة" مثلاً، رصد مينه سورية بين الحربين العالميتين وانتقل من خلال "الثلج يأتي من النافذة"، و"الربيع والخريف" إلى معاينة سورية بعد الاستقلال. لكن موجة خلقه للشخصيات لم تتغير، يخلق مينه العصر قبل خلق الشخصيات، والفكرة الإيديولوجية قبل سياق السرد الأدبي. وهذا ما يجعل مينه محاطاً بالعصر والفكرة، أكثر من تركيزه على الإنسان وهو يشاهد ذلك العصر. برز في مينه المهاجر مقهوراً من إحدى قرى لواء اسكندورن إلى اللاذقية عالمٌ حسيٌ جديد؛ هذا العالم اقتناه كتجربة نضجٍ قاسية انعكست في ذاته الأدبيَّة؛ فرصد العصر كما هو في الفقر، والهجرة، وتخلف الفلاح واستكانته، والظلم الإقطاعي وتعسّفه. ظهر مينه وهو يكتب ما يعاينه أمامه من دون أيِّ خجلٍ منه أو عناية. ما جعل مينه في القرن العشرين صاحب كعبٍ عالٍ، هو الحاضر السوري نفسه وهو بدا مكتوباً. تميل رواية مينه لتكون أقرب إلى الثقافة الفكرية الثائرة لأبناء جيل الخمسينيات وصولاً لثمانينيات القرن الفائت. الإيديولوجيا والأدب الواقعي كما ساد على الطريقة الستالينية غير المثقفة أو المهذبة فنياً، إلى جانب الانشغال الفني بالواقع الاجتماعي ورسمه وفسخ تفاصيله. وهنا تكمن معضلة أخرى يعالجها حنا مينه؛ ففي بحثه عن واقعية قدرية روحية وجمالية، يميل ليكون ابن البحر، واصفاً لبشره، وقاهراً وخالقاً لهم فيه ومنه. كان مينه في جلّ رواياته متخذاً من البحر اقتصاداً، ومجتمعاً، وخاتمة له ولبشره الذين رسمهم.


السرد التعبيري الذاتي انتقل لراويات مينه بسلاسة. والإيديولوجيا اقتربت من شخصية المهاجر، أو الخارج من أرضه. بل باتت فيه. حنا مينه من الروائيين القلائل الملتزمين في كتابتهم ومواضيعهم باتساق يتأرجح بين المجتمع الواقعي والمجتمع المتخيل، بين البطل المُتعب والبطل المنشود. بين البطل الشعبي الساذج، والسياسي اليساري الحكيم. وأحياناً يُخضِع شخصيات اجتماعية لحالة من المزج المستحيل، لكنه وارد. وكتعويض عن حالة الهجرة والقهر في النزوح، خلقت ذاتية مينه البطولة من لا شيء في شخصية اجتماعية، هوس فكرته القهرية ذاتها خلقت منه روائياً، بالتالي تخلق الشخصيات دون صنعها من بشر من لحم ودم وخطيئة وهوة نفسية، تظهر الشخصيات ضمن حالة العصر المتخيلة بأبسط طريقة، وكأن روايات مينه هي مشافهة تحولت إلى أدب، قصة باتت رواية. من هنا جذبه وانتشاره في القرن الفائت؛ البساطة في التعبير، والخير النابعان من بطل متخيل فردي، والأنثى التي لا يراها مينه إلا بخيالٍ بسيط إن لم نقل أنّها في أحيان كثيرة كانت خيالات ذكورية؛ فهو لم يظهر المرأة في تجليات كثيرة سوى في صمتها، عاطفتها، تعبها اليومي؛ المعشوقة الهادئة المنتظرة الصامتة. وحينما يختلق شخصية نسوية ما لتكون محركة للحدث يجعلها بغياً أو راقصة؛ أي ضمن إطار الشهوة.

وضمن التشرب المسيحي لنشأة مينه بدت بقايا طفولة الإيمان التي جعلت المرأة نوعين في لا وعيه؛ مريم العذراء، وسالومي التي طلبت رأس يوحنا المعمدان. وحتى هذه الثنائية هي ثنائية اجتماعية، فاتساع شخصيات المرأة في القرن العشرين كان محدوداً، ورغم يسارية مينه، لكنه لم يستطع اكتشاف أبعاد نسوية نفسية أو خاصة أو محملة للحدث. وهي موضة أدبية سادت حتى في أدب نجيب محفوظ أحياناً؛ في ثنائية خلقية للمرأة.

تشرب مينه للعصر لا يتوقف هنا؛ فقد التقط الشخصيات حوله دون أن تندرج في سياق معين مرسوم أو متوقّع، ما جعل قدرته الأدبيّة محدودة. وحتى تقديسه للبحر هو ذاته تقديسه للبطل الشعبي، وكرهه للإقطاع؛ فهو مثلاً يؤكد ثقافة نموذجية لا تحمل نزعة بنائية بخلقه لشخصية محورية تملك صفات بطولية عقلية، أو نزعة ليست ذات تأثير في الواقع. وامتداد رواياته كانت أقل بوحاً وحرية، وأقل مجابهة لعصور سادت فيها الاستبدادية العسكرية، باستثناء روايته "المستنقع" التي كان فيها شديد الجرأة والذاتية.

يتقولب مينه جيداً ضمن الإطار الذي اختاره وحصل شهرته فيه، ما جعل محدودية مخيلته واضحاً. المركب البوحي للشخصية لا يبدو حديثاً ولا يملك مستقبلاً دلالياً أو مفتاحياً في الأدب. وحتى قصوره الأدبي يتجلى من ارتباطاته السياسية الآمنة التي اختارها، حتى وصل إلى مرحلة لم ينتبه فيها إلى أنها موجودة في مخيلته فقط وأنّ حجم التغيرات فيها محدود. أمّا  سؤالنا الأول عن مينه فلم يعد من الصعب الإجابة عليه الآن.


من هنا يبدو الجواب الذي حاولنا طرحه على المكتبات والشباب واضحاً. لقد أكَّد الزمن قدرة حنا مينه على البقاء في المستقبل؛ أثر العودة للخلف قد غاب عن الاهتمامات السوريَّة، حتى بدا للسوريين أن عصوراً سابقة في روايات كثيرة لم تعد صالحة أو جيدة للقراءة؛ هذا لا يضعف حنا مينه أو يحطّ من شأنه، لكن يدلنا على شيء جوهري في تطور حركة الترجمة بانتشار روايات ومع أنَّها تنتمي إلى سياق تاريخي معيَّن إلَّا أنَّها أغنى على صعيد المستوى الإنساني والتفصيلي والسردي، وأكثر اتصالاً بواقعية غير مفعمة بالإيديولوجيا بقدر تغنيها بالإنسان ومآلاته داخل أيّ عصر، فحتى الآلية السردية بالكاد تجعل مينه روائياً رصيناً، ويتضح هذا من ميله أحياناً إلى دمج اللغة المحكية باللغة الفصحى. فنية السرد الذاتية تتجلى دائماً في شخصية يختارها مينه بوصفه ساردها الأول، ولا يمتلك ذلك تأثيراً على جذب الشباب أو ترغيبهم بالقراءة له، ليس لقدم ما يرويه مينه ويسرده، بل أيضاً سر الرواية بمحاكاتها للأبطال بوصفهم أشخاصاً قد يتشابهون معنا بروحيتهم في كل عصر وتعيين. ولا يضر مينه أن يغرق في تفاصيل معينة، لكنه يعاب عليه في أوقات كثيرة وعلى مجتمعنا ذاته فقر تنوع الشخصيات في عصر رسوبي ننتظر فيه انطلاقة نحو المستقبل. فأيّ رواية من القرن التاسع عشر تحمل في مخيلتها إطاراً وتفاصيل وأشياء أكثر كثافة من قدرة مينه على التقاطها في مجتمع شديد المحدودية.


 لقد خرج مينه اليوم من دائرة الاهتمام أيضاً لأن سورية التي يحاكيها بأبطالها ونسج مخيلاتها باتت قديمة وغير واقعية وبالكاد تملك ثورية حقيقة بشرية؛ فهو ذاته استكان لنظام استبدادي، وتنمَّط حزبياً بالتقرب من مجموعة سياسية حزبية يسارية تنتمي للجبهة التقدمية السورية؛ أي حزب البعث، ولا يتجاوز عدد أعضائها بالكاد المئات، كما خضع لتبجّح يساري ساذج واستمر طويلاً معه. وفي جنازته رفعت أعلام الحزب الشيوعي ببلاهة شديدة! حنا مينه لا يُقرأ لأنه أصبح تاريخاً لسورية القديمة جداً لم يكن فيها هو ذاته إلّا راوٍ لما رآه وتألم فيه.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها