الأربعاء 2021/08/04

آخر تحديث: 12:39 (بيروت)

مغامرة في عالم الموتى

الأربعاء 2021/08/04
increase حجم الخط decrease
مع ان النزول في الديماس الباريسي(*) يسمى زيارة، لكن الإقدام عليه لا يحمل سوى إلى الاقتناع بكونه مغامرة. أعني بذلك بأن الزيارة، ولكي تتحقق، تشترط الدراية بمقصدها، بالتالي، هي مضبوطة بصلة بلوغه، ثم الانتهاء من بعد هذا. على أن المغامرة ليست كذلك، فهي بدايةً من دون وجهة مرسومة سلفاً، بحيث أنها مفتوحة على مقاصد واحتمالات غير متوقعة أو غير محددة من قبل. ولذلك، تزيد المفاجأة من الحضور في اثنائها، ما يجعلها لا تنتهي بسهولة. بهذا المعنى، زيارة ديماس (أو ديماسات) باريس هي مغامرة، واكثر ما تنقله الى خائضها هو رهبة من شيء بعينه، وهو الموتى.

ففي هذا الديماس، ثمة بقايا عظمية لأجساد الذين دفنوا في باريس ذات يوم، لكن، بفعل إعادة تنظيم المقابر في المدينة، أعيد نقلهم اليه. عملية النقل هذه تعود إلى نهاية القرن الثامن عشر، حين حمل تراكم الأوساخ في مقبرة سان-انوسان إلى وضع البقايا تلك في مكان تحت "مون رووج". ومنذ هذه اللحظة، صار هذا المحل يستقبل كل البقايا التي تلفظها المقابر لأسبابها العديدة، فتجد مسقطها فيه. وهو فعلياً مسقط، حيث يمكن الشعور بكون البقايا قد سقطت فيه قبل أن تتكوم، كما يمكن الشعور أيضاً بأنها ولدت فيه بمعنى صارت غير ما هي عليه، فلم  تضمحل في التراب. في الواقع، هي وجدت محلها، اي  المِعظمة، التي كان قد افتتحت في العام 1809.

في هذه المعظمة، تحل تلك البقايا، بهياكلها وجماجمها، كأنها هي التي تبنيها، ليس بسبب وجودها فيها فقط، إنما لأنها تزنر كل جدرانها إلى درجة يمكن القول ان هذه الجدران هي جدران مشيدة منها. إلى جانب هذه الهياكل، هناك ما يلفت النظر للغاية-ويشجع على التعليق عليه بمفرده-وهو التوابيت القديمة، بحيث أنها تغير شكلها من حقبة الى أخرى، ومن شخص إلى ثان، ومن منطقة إلى أخرى.

بين هذه التوابيت والهياكل العظمية، لا يمكن سوى الاعتقاد بكون لقاء مع الموتى سيحصل، وذلك على طريقتين أو من جهتين. من ناحية غيابهم، الذي تدل عليه عظامهم وهياكلهم، كما لو أنهم تركوها وذهبوا، فهي دليل على رحيلهم هذا. من ناحية حضورهم، هناك العكس، اي ان كل هذه البقايا هي علامات على وجودهم هنا. في هذا المطاف، تظهر رهبة حضورهم، التي تتعلق بجماجمهم المرتفعة من كل حدب وصوب، وتحديداً، محاجر عيونها الفارغة، أو المعتمة، التي لا شيء فيها. إذ تقول ان الموتى هم فيها، داخلها، في ظلمتها هذه، وها هم ينظرون إلى خائضي المغامرة في ديماساتهم من مطرحهم من دون أي رؤية لهم.

بيد أن وجودهم على هذا النحو يحيل الى امر محدد، وهو موقع المغامرين في عالمهم منهم. فالموتى بحضورهم أو بغيابهم في هذا الديماس يبرزون كموضوع لمشاهدتهم، للاقتراب منهم، للدنو من سرهم، مما يقولونه حول ما يصيره الكائن الحي بعد موته. لكن، وعند كل ذلك، هناك ما يقاوم فيهم كل كشف للغزهم، هناك ما يجعل كل اماطة اللثام عما قد يخبروننا عنه بمثابة اماطة محالة، وهو ليس سوى الفراغ في عيونهم، ليس سوى الليل الحالك فيها. ففي هذا الليل، في هذا الفراغ، ثمة ما يبعد عنهم، وهذا بالاشارة إلى انهم، ورغم كونهم هنا، رغم ترتيب هياكلهم وصفها وهندستها، رغم كل هذا، هم، في الوقت نفسه، ليسوا في ديماسهم. فمحاجرهم المظلمة تفتح على عالم مختلف، يقع خلف المعظمة: انه عالم لا يمكن العبور اليه، فعند حده تنتهي الزيارة والمغامرة، وعند حده، يثبت الموت ان بناء ديماس له لا "يمتحفه" (من متحف)، أي يثبت الموت انه لا يموت.

(*) Les catacombes de Paris, 1 Av. du Colonel Henri Rol-Tanguy, 75014 Paris
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها