الأربعاء 2021/07/07

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

جهنم وبئس المصير

الأربعاء 2021/07/07
increase حجم الخط decrease
قبل فترة، سأل الصحافيون الرئيس ميشال عون: "إذا لم تشكل الحكومة إلى أين نحن ذاهبون؟"، فردّ بالقول مباشرة: "إلى جهنم". تلقّف المغرّدون هذه العبارة بسرعة البرق، فتصدّرت لائحة الكلمات الأكثر استخداماً في لبنان عبر مواقع التواصل. منذ بضعة أيام، تحدث المدير العام لمستشفى رفيق الحريري، الدكتور فراس أبيض، عن الوضع العام، وقال: "نحن في جهنّم حقاً"، ورأى البعض ان هذا القول يعبّر "عن الرسم البياني الانحداري الذي لم يَعُد الواقع في بلاد الأرز يُقاس معه إلا على مؤشر الجحيم". وتتكرّر عبارة "جهنم" في النص القرآني كما في النص الإنجيلي، وتظهر الدراسات أنها تعود في الأصل إلى التوراة حيث هي اسم واد عميق يقع عند أطراف مدينة القدس، استخدم قديماً لتقديم أضاحي الأطفال حرقاً، ثمّ أضحى مكبّا تلقى فيه جثث "الكفار" قبل إضرام النار فيها.

تَرِد عبارة جهنم في تسع وستين سورة من سور القرآن، وهي نار الجحيم، وأهلها على الحقيقة هم الكفرة والمشركون، وهم خالدون مخلدون فيها أبداً، "جهنم يصلونها فبئس المهاد" (ص56)، "حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير" (المجادلة 8)، "وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير" (الملك 6). بحسب ما جاء في "لسان العرب"، جهنم هي الجهنام، أي القعر البعيد، "وبه سميت جهنم لبعد قعرها". وفي جهنم قولان، قيل "جهنم اسم النار التي يعذب الله بها في الآخرة، وهي أعجمية لا تجرى للتعريف والعجمة"، وقيل "جهنم عربي سُمّيت نار الآخرة بها لبعد قعرها، وإنما لم تُجرّ لثقل التعريف وثقل التأنيث"، وقيل: "هو تعريب كهنام بالعبرانية"، وقيل "بئر جهنام البعيدة القعر، ومنه سُمّيت جهنم، فهذا يدل أنها عربية"، "وإنما لم يُجرّ لثقل التعريف وثقل التأنيت". يتكرّر هذا التعريف في كتب اللغويين، ومنها "الإبانة في اللغة العربية"، وفيه: "أصل جهنم جهانم، فأدغمت الألف في النون. وقال بعضهم: أصلها: جهينم، فأدغمت الياء في النون. وقال بعضهم: جهننم، فأدغمت النون في النون؛ لأنهم استثقلوها، واللسان يجفو عنها".

في المقابل، يرى أهل الاختصاص ان جهنم هي في الأصل لفظة آرامية لكلمة عبرية هي "جهنوم"، وهذا الاسم يرد في التوراة في صيغة "وادي هنوم"، وهو واد يمر إلى الجنوب والغرب من مدينة القدس، ويشكل الحد الفاصل بين نصيبي كل من يهوذا وبنيامين، ابني النبي يعقوب. خان الملك سليمان العهد الإلهي، وعلى الطرف الجنوبي لهذا الوادي، بنى مرتفعة "لكموش رجس الموآبيين"، و"لمولك رجس بني عمون" (1 ملوك 11: 7)، وهما وثنان من أوثان هذين القومين. هكذا أضحى وادي بني هنوم مركزاً لعبادة الوثن "مولك" الذي كان عبدته يقدمون أولادهم طعامًا للنار كمحرقات له، وقد اتبع الملك اليهودي آحاز هذا السبيل، كما يؤكّد الكتاب: "كان آحاز ابن عشرين سنة حين ملك، وملك ست عشرة سنة في أورشليم، ولم يفعل المستقيم في عيني الرب كداود أبيه، بل سار في طرق ملوك إسرائيل، وعمل أيضا تماثيل مسبوكة للبعليم، وهو أوقد في وادي ابن هنوم، وأحرق بنيه بالنار حسب رجاسات الأمم الذين طردهم الرب من أمام بني إسرائيل" (2 اخبار 28: 1-3).

رفض الملك يوشيا هذه الممارسات، و"نجّس توفة التي في وادي بني هنوم لكي لا يعبر أحد ابنه أو ابنته في النار لمولك" (2 ملوك 23: 10)، وتوفة اسم لموقع في الوادي، وهذا الاسم مأخوذ من الآرامية على الأرجح، ومعناه "مكان الحريق"، وهو الموقع الذي اعتاد العبرانيون في أيام اشعياء وارميا أن يحرقوا فيه أولادهم وبناتهم في النار (ار 7: 31-32) تقدمة للإله مولوك. تنبّأ ارميا أن عددًا من اليهود سيقتل في هذا الموقع، وإن اسم توفة سيختفي، والوادي الذي تقع فيه سيعرف باسم وادي القتل: "لأن بني يهوذا قد عملوا الشر في عيني، يقول الرب. وضعوا مكرهاتهم في البيت الذي دُعي باسمي لينجّسوه. وبنوا مرتفعات توفة التي في وادي ابن هنوم ليحرقوا بنيهم وبناتهم بالنار، الذي لم آمر به ولا صعد على قلبي. لذلك ها هي أيام تأتي، يقول الرب، ولا يُسمّى بعد توفة ولا وادي ابن هنوم، بل وادي القتل. ويُدفنون في توفة حتى لا يكون موضع. وتصير جثث هذا الشعب أكلا لطيور السماء ولوحوش الأرض، ولا مزعج. وأُبطل من مدن يهوذا ومن شوارع أورشليم صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس، لأن الأرض تصير خرابا (إرميا 7: 30-34).

خرّب الملك يوشيا موقع توفة، وهدم المذابح الوثنية التي أقامها أسلافه، وذرّى غبارها، وحطّم التماثيل، "وملأ مكانها من عظام الناس". "والتفت يوشيا فرأى القبور التي هناك في الجبل، فأرسل وأخذ العظام من القبور وأحرقها على المذبح، ونجّسه". "وكذا جميع بيوت المرتفعات التي في مدن السامرة التي عملها ملوك إسرائيل للإغاظة، أزالها يوشيا، وعمل بها حسب جميع الأعمال التي عملها في بيت إيل. وذبح جميع كهنة المرتفعات التي هناك على المذابح، وأحرق عظام الناس عليها، ثم رجع إلى أورشليم. وأمر الملك جميع الشعب قائلا: اعملوا فصحا للرب إلهكم كما هو مكتوب في سفر العهد هذا" (2 ملوك 23: 11-21).

تحوّل وادي بني هنوم إلى موقد تحرق فيه جثث الكفار، وتنبّأ اشعيا بأن ينهي ملك أشور حياته في هذا الموقد، وقال في نبوءته: "لأنه كما أن السماوات الجديدة والأرض الجديدة التي أنا صانع تثبت أمامي، يقول الرب، هكذا يثبت نسلكم واسمكم. ويكون من هلال إلى هلال ومن سبت إلى سبت، أن كل ذي جسد يأتي ليسجد أمامي، قال الرب. ويخرجون ويرون جثث الناس الذين عصوا عليّ، لأن دودهم لا يموت ونارهم لا تطفأ، ويكونون رذالة لكل ذي جسد" (أشعيا 66: 22-24).

تحول هذا الموقع إلى جهنم، وتكرّرت هذه العبارة بشكل جليّ اثنتي عشرة مرة في العهد الجديد حيث ارتبطت بالدينونة النهائية وأخذت بعدا أُخرويّا. ففي كل هذه المواضع، تشير جهنم إلى مكان العقاب الأبدي للأشرار والخطأة، وفيها يُلقى الجسد والنفس معًا في النار الأبدية التي لا تطفأ، كما يُستدل من أقوال المسيح: "ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم" (متى 10: 28)، "كيف تهربون من دينونة جهنم" (متى  23: 33)، "خير لك ان تدخل الحياة أقطع من ان تكون لك يدان وتمضي الي جهنم، الى النار التي لا تطفا" (مرقس 9: 43)، "خير لك أن تدخل ملكوت الله أعور من أن تكون لك عينان وتُطرح في جهنم النار (مرقس 9: 47).

سمع شعراء الجاهلية بالجنة وأحوال أهلها، كما سمعوا بجهنم وعذابات الهالكين في نارها. قال أمية بن أبي الصلت: "أركسوا في جهنم انهم كانوا/ عتاة يقولون كذبا وزورا". وقال كعب بن مالك: "تَلَظَّى عليهم حين أنْ شدَّ حميُها/ بزُبْر الحديدِ والحجارة ساجرُ".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها