الأربعاء 2021/07/28

آخر تحديث: 12:42 (بيروت)

ثقافة فارس ساسين.. من ضروب درء الخراب

الأربعاء 2021/07/28
ثقافة فارس ساسين.. من ضروب درء الخراب
قراءة "فينومينولوجيا الروح" مرتين كل عام
increase حجم الخط decrease
كلما التقيتُ فارس ساسين، كنت أتخيله قد انتهى للتو من قراءة فينومينولوجيا الروح لهيغل للمرة الثانية. مردّ تخيلي هذا يرجع إلى لُبس حول ما كان قد أخبرني به صديقي أنجلو عن ساسين. فقد كنا ذات مرة في طريقنا لزيارته، حين راح يحدثني عنه، قائلاً إنه ردد أمامه أنه لا بد من قراءة كتاب هيغل ذاك مرتين في العام. "مرتان!"، قلتُ مستغرباً، بحيث أن فعل ذلك عويص للغاية. لكن، بعدما انصرفنا من عند ساسين، كنت متأكداً انه يقرأ "فينومينولوجيا الروح" مرتين في العام، وسبب ذلك، هو وسع تثقفه. فمن تلك الزيارة، أذكر كيف بدأ ساسين بإلقاء عدد من قصائد بودلير، مشدداً، وفي بعض اللحظات، على بعض شطورها. إذ أنه، وبالتوازي مع حبه لبومة مينيرفا، بما هي طائر التفلسف، كان له باع كبير في الأدب، وربما، تصح الإطلالة على موته مع صديقه الروائي جبور الدويهي من هذه الجهة.

لقد كان ساسين مثقفاً فعلياً، و"فعلية" ثقافته هذه تتعلق بتعدد قراءاته، مثلما تتعلق، وقبل هذا، بأسلوبه. فساسين أسلوب بحد ذاته، وقد تكون سمته الأساس هي انفكاكه عن أي استعراضية معرفية. فينطوي هذا الأسلوب على ما يكفي من النبل، الذي يشير إلى إدراك صاحبه بأن التثقف لا يحمل سوى إلى تثبته مما قاله ابو النواس ببداهة وبساطة، "وغابت عنك أشياء". لكن هذا لا يعني أن تثقف ساسين يرادف الـ"حفظت شيئاً"، إنما هو أقرب إلى جعل "الشيء" هذا على صلة بغيره من مجال ثاني، الفلسفة مع الأدب، والأدب مع التاريخ، والتاريخ مع الرسم، الخ. مثلما أن ذلك التثقف لم يكن تثقفاً "إفكارياً" بالمطلق، بحيث ينفصل عن سبل إنتاج الأفكار والمقولات، على العكس، فساسين كان على صلة بهذه السبل، ويمكن الإضافة انه كان على اطلاع بحكاياتها إذا صح التعبير. فقبل سنوات، أخبرته عن نظرتي الى الدادائية، وفي سياق الحديث، روى لي حكاية عن تزارا وعلاقة بخله بتياره التدميري. فثقافته بهذا المعنى ليست إعلاء من قيمة الأفكار أو المقولات، كأنها آتية من "غامض علمه"، إنما هي تتصل بيوميات مهملة، وبالكاد تُسجّل في كتب أو تأتي على ذكرها سِيَر.

في الوقت نفسه، كان تثقف ساسين يدل، ومن سياقه اللبناني، على بُعده الفرانكفوني. هذا البُعد يتعلق بالطبع بفرنسية ساسين الثقافية التي تتصف بكونها تحيل إلى حقبة غنية وكونية منها، لا سيما من ناحية ثوريتها. فقد كان تثقف ساسين ينطوي على ثورية ما، وهذا حتى لو بدت أنها في هامشه، أو من ماضيه، فهي كانت دوماً داخله، وفي بعض اللحظات، كانت، وبجزء منها، تبرز على شكل نوستالجي. فها هو ساسين، ينشر له صورة، يظهر فيها متحدثاً في ذكرى الراحل خالد غزال، وقد بدا خلفه المنجل والشاكوش. يعلق على هذه الصورة، كاتباً "عودة الشيخ إلى صباه"، فوقت الصبا هذا كان وقتاً ثورياً، أما وقت الشيخ فهو لا يقوم بمعاداته أو الندم عليه، إنما يحتفظ منه بحيوية تثقفية تكاد تجعل الوقتين متطابقين.

وأن يموت ساسين الآن، حيث لا وقت للشيخ ولا لصباه، إنما لنهاية بلد على نحو كارثي، ففي رحيله إعادة تأكيد على أن تثقفه هو أيضاً كان من ضروب درء الخراب. إذ يحيل الى تلك الآية من رؤيا يوحنا، أي عندما قال له الملاك أن يأخذ الكتاب ويأكله فيصير جوفه مرّاً، أما فمه فعسل. فأكل الكتاب تثقف، أكل الكتاب مضاد للخراب، أكل الكتاب مواجهة له، أكل الكتاب... ثم قراءته مرتين!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها