الإثنين 2021/07/12

آخر تحديث: 14:55 (بيروت)

"بقرة أولى" لكيلي رايكارت.. أميركا الرقيقة أميركا المتوحشة

الإثنين 2021/07/12
increase حجم الخط decrease
"العصفور عشّ، العنكبوت شبكة، الرجل صداقة" - ويليام بليك.
تجسّر اللقطات الافتتاحية لفيلم "بقرة أولى" زمناً يمتد لأكثر من قرن ونصف القرن: امرأة وكلبها يتمشيان على طول شاطئ نهر تحرثه قوارب ضخمة تحمل ما لا نعرفه، يجدان هيكلين عظميين مدفونين في الأرض، الأرض ذاتها التي كانت موطناً للرجلين المتوفين منذ فترة طويلة تتحوَّل إلى شيء أكثر حياة من خلال العديد من ثمار الفطر الذي تلتقطه يد أحدهما، لنعود بالزمن إلى الوراء، إلى عشرينيات القرن التاسع عشر في خضم غزو الغرب الأميركي، وحمّى البحث عن الذهب، والاعتداء على ثروات أرض عذراء وبلا حدود.

نحن في ولاية أوريغون، و"كوكي" (جون ماغارو) هو طباخ عبَر البلاد بأكملها بحثاً عن ثروته في الغرب كطاهٍ في حاشية مجموعة من الصيادين الساعين أيضاً وراء المغامرة والربح. على الفور، يتضح أن الرجل ليس من قماشة تلك العصابة من المتخلفين الوحشيين الذين يعارضون لُطفه. في طريق كوكي، يظهر "كينغ لو" (أوريون لي)، وهو مهاجر صيني يبحث أيضاً عن الثروة، وسط الغابة، هارباً من مجموعة روس يطاردونه لأنهم يعتبرونه قاتل أحد أصدقائهم. تتكوّن رابطة بين الاثنين، سرعان ما تتحول إلى صداقة عندما يسدّد أحدهما للآخر خدمة تنقذ حياته. ويقرر الاثنان الشروع في رحلتهما بمفردهما والاستقرار بالقرب من القلعة حيث يصل المغامرون الآخرون بحثاً عن المجد.

عندما تظهر بقرة جميلة، أول ساكني جنسها في هذه الأراضي البعيدة، على الشاشة بكامل روعتها، منقولة عبر النهر على طوف إلى المستوطنة حيث يعيش أبطال الفيلم؛ تتحوَّل القصة إلى حكاية خداع يبتكرها الرفيقان من أجل النجاة والترقّي. كينغ لو، الذي يملك عقلية رجل أعمال ذكي ومقتنع بفخر بأنه قد جاء إلى أرض الوفرة والفرص حيث يمكن تحويل كل شيء إلى أموال، يقنع كوكي بسرقة الحليب من البقرة المملوكة لتاجر إنكليزي ثري من أجل إعداد كعك الحليب بفضل مهاراته في الطهي. كما في أي شركة ناشئة تحترم نفسها، هناك مخّ وعضلات. الاختيار سيجلب المال والرضا لكليهما، وفي سوق القلعة البائس سيتشكل طابور لتذوق تلك الحلوى اللذيذة، على الأقل حتى يُكتشف أمرهما، ولن يكون أمامهما خيار سوى الفرار. تكمن الركيزة السردية الأكثر إثارة للاهتمام في "بقرة أولى"، في الازدواجية المنشأة بين بطلي الفيلم، والتي بدورها تؤدي إلى سلسلة من التأملات في الحضارة الرأسمالية والمجتمع الأميركي.


كيلي رايكارت، واحدة من أعظم صانعي الأفلام الأميركيين النشطين. وعلى قلة أعمالها، فكل جديد لها مهم وجدير بالمشاهدة. لكن "بقرة أولى"، على وجه الخصوص، بسيط بشكل رائع. ليس بسيطاً بمعنى الخِفّة، بل بالأحرى مينمالي ومقتصد في ما يرويه وما يعرضه، من دون أن يعني ذلك إرباك المتفرج أو التعالي عليه، بل إشراكه في منطق الفيلم وإيقاعه وزمنه، وبالتالي تكثيف التجربة الفيلمية بإهمال كل ما لا يهمّ. في جديدها، تقوم كيلي رايكارت، التي كتبت السيناريو أيضاً مع شريكها المعتاد جوناثان ريموند، مؤلف رواية "النصف حياة" التي يستند إليها الفيلم، بمناورات لتفكيك الأسطورة الأميركية عن الحدود، بتركها جانباً البهارات والإعدادات التقليدية لأفلام الويسترن الكلاسيكية لصالح التفكير في مفهوم الفرص اللانهائية التي تقدمها الأمة الأميركية الفتية، وتتبع جذور روح ريادة الأعمال الأميركية والواقع القاسي لكيفية تصادمها غالباً مع الرأسمالية الراسخة.

"بقرة أولى" يدور بالأساس حول أميركا قبل أن تصبح أميركا. الصورة الكلاسيكية للمستوطنين على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، ليست سوى جزء واحد من القصة، بحسب رايكارت، فهناك أيضاً قصة هجرة من آسيا ومن الشمال ومن الجنوب. ما تقدّمه في فيلمها هو ويسترن بديل لا يشبه غيره، من دون الصورة النمطية لراعي البقر ومن دون حاملي السلاح، يتناول موضوعات عنيفة مثل العرق والطبقة من خلال قصة رقيقة بشكل استثنائي عن شيء رائع وثمين وغامض مثل الصداقة. الخروج من أسر الويسترن التقليدي يأتي لاعتبارات جمالية وموضوعية، ويجلب الفيلم بدوره إلى مساحات حسّاسة ورقيقة أحياناً، وغامضة في بعض الأحيان، في حكاية تقتبس من شتاينبيك وفولكنر أكثر من جون فورد، لتقديم بورتريه فريد لأزمة الذكورة في القرن الحادي والعشرين، حاد بقدر ما هو مؤثر. مدهش كيف تختار المخرجة إنجاز فيلم لا نساء تقريباً، لكنها ترسم أبطالها بلُطفٍ تندُر رؤيته في الويسترن والأنواع المماثلة. في ذلك، يشبه "بقرة أولى" إلى حد ما، فيلماً آخر للمخرجة شارك في كتابته أيضاً جوناثان ريموند، "فرح قديم" (2006)، وهو أيضاً عن صداقة رجالية من منظور غير اعتيادي وبنبرة عاطفية وهشّة.

كيف يحدث كل هذا بنجاح؟ ببساطة لأن هناك مساحة لصداقة لا تحكمها "الذكورية السامّة" بلغة عصرنا، لا تظهر عضلاتها، ولا تصرخ بل تلقي بنظرتها بدلاً من ذلك على الطبيعة وعلى أخلص المشاعر من دون الوقوع في الكآبة. إنه قصة صداقة قبل فترة طويلة من وجود الكلمة التي يبدو أنها تحدد اليوم هذا النوع من العلاقات الإنسانية، قصة آسرة عن صداقة وزمن بعيد جداً، لكنه أقرب بكثير مما قد يعتقد المرء، والذي يواجهنا بأصول عالم جديد يتهيأ لقهر الجميع.

يزخر الفيلم بما يتجاوز حكايته، ليرسو بها في فهمٍ راهن وجذري لتأسيس الأمة الأميركية والقواعد الأساسية للرأسمالية وخيبة الأمل في الحلم الأميركي الشهير. عندما يقول كينغ لو أن الأرض جديدة حقاً، وأنهم وصلوا قبل التاريخ، تميل المخرجة إلى التأكيد على ولادة الفكرة الرأسمالية في بيئة تنافسية تتنازعها الأطماع والطموحات. كما لو أنه في تلك الأراضي الجميلة العذراء غير المضيافة، لم يكن كل سعي الروّاد والمنقبين عن الذهب والمحتالين من كل الأنواع وروّاد الأعمال الحرّة، أكثر من النواة الفاسدة التي شكّلت فكرة المجتمع الرأسمالي في السنوات اللاحقة.

التباين بين الرأسمالية المخضرمة والصارمة وطيبة ولُطف كوكي، بين استعمار الأرض واستعباد الآخرين من جهة، وبين جمال الطبيعة وتنوّع الجنس البشري وخصوصية كل أفراده من جهة أخرى؛ هو تناقض عميق ارتكزت عليه القوة العظمى الناشئة في العالم: أرض الفرص المتاحة للجميع، هي أيضاً المكان الذي تتعارض فيه النزعة المهنية والعنف الضروري والطموح الجامح، مع اللطف والمساحات اللانهائية وجمال البقرة المهيبة والنهر الذي يرحّب بجثتين على ضفافه. بهذا المعنى، هذا فيلم يتحدّى أسلافه الويسترن، مثلما يتحدّى سردية أميركية معينة عن نشأة الولايات المتحدة، وتقاليد معينة للذكورة. وهو غامض وثمين مثل موضوعه، آمن مثل عُشِّ طائر، وهشّ مثل قطعة قماش تلتقط قطرات ندى ينعكس فيها الكون كله، وتصبح أداة وترية لأشعة الضوء. وفي الوقت نفسه يظهر مدى قوة وضعف كل شيء.

(*) يُعرض الفيلم حالياً في "موبي".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها