الأربعاء 2021/06/30

آخر تحديث: 14:08 (بيروت)

السينما القذرة

الأربعاء 2021/06/30
السينما القذرة
الحرب تبدو في الفيلم أقرب إلى صراع آلهة يونانية والبشر
increase حجم الخط decrease
الدلالة الأوضح في السينما السورية، أنها تموت من دون العناية بموتها أو أثر منتجيها، لأنها تملك جانباً وظيفيّاً أقرب إلى السلوك الحيواني في تخصصها، وفي تحويل الواقع إلى عدم، إذ يستحيل ربطه بواقعٍ ما، ولو حاول كتّاب السينما خلق واقع مفترض. يُفرق برغسون بين الحيوان والإنسان بالوظيفية التخصصية الموجهة، بدلالة أن الحيوان موجّه لغايات طفيفة ومحدودة وخاصة، أما الإنسان فيتحرر من التخصصية في سلوكه وغايته، ويملك خيارات أوسع ورؤى أكثر معرفية. في سوريا، هناك الكثير من أنماط الحياة التي تنمو فيها السلوكية التخصصية الحيوانية الموجهة؛ السينما دليل حيوي على ذلك.

في رحلة قاسية لمشاهدة فيلم "درب السماء"، من إخراج جودت سعيد، وكتابة رامي كوسا، وبطولة أيمن زيدان، تظهر التخصصية بشكلها العدمي، وهي بقيادة فنية للأسف. يبدأ الفيلم بموسيقى لسمير كويفاتي، الأقرب إلى تراتيل الكنسية البيزنطية (عذراء يا أم الإله، افرحي يا عروساً لا عروس لها)؛ هذا واضح إلى درجة كبيرة. ما يُثير ريبتنا أنَّ الفيلم، يبدأ بتجسيد بارانويا المخرج جودت سعيد؛ فيبدأ الفيلم بمقولة له، وهذا ما بدا مفزعاً ومضحكاً في آن واحد، إنّ ذلك غير مطروق، وغير معمول به كثيراً، فما قيمة أن يبدو المخرج ذا مقولة وهو يقود من خلال الصورة سرداً أو قصة؟ عن ماذا يبحث لا وعي سعيد عبر وضعه مقولة له في بداية فيلم مثلاً؟ هذا دليل سريع لمعرفة أن المخرج يتجاوز الصورة من أجل قوله الخاص الذي لا تُعبر عنه الصورة. هذا ضعف بنيوي في تركيب القول لدى المخرج، هو لجوء للحَرف وهو يملك الصورة والسرد وقيادة الحبكة، الكاميرا التي باتت تأمُّلاً مجحفاً للواقع لكي تلتقط ما يُريده المخرج من ورائها، لا بحثاً عمّا أمام اللغة ومنطوقها. وهذا ليس أسوأ ما في سعيد؛ ديكتاتور السينما السورية وفيلسوفها، بل ما يُصرحه عن الفيلم، وهشاشة الثقافة التي يحملها، وتعبيره السطحي عن أعماله. تعريفات شفاهية متداولة، وليست سقراطية أبداً بمعناها الإشكالي. من المجحف أن السعيد لا يعرف أبداً التعبير عن الفن أو حتى الشعور فيه بوصفه معرفة. تعريفات بلاغية ومقولات ثقافية، وكأن ابتذال الكلمات والجمل ثقافة أو دليل على نخبوية ما. نفسه السعيد يعرف أن لا كلمة يقولها تُعبّر عن وجود أو واقع تتصل به؛ لا اتصال لأعماله بالواقع ولا حتى لما يقوله وهو يعبّر عن نفسه. وفي مؤسسة السينما يبدو بدوياً استحواذياً، فقط لأنه مقرب من عائلة الأسد، ويبدو ابنها السينمائي والمنتج الراعي لأبناء مفصليين محددين.

ينتمي الفيلم إلى ما يسمى الفيلم الطويل، وهي علة الفيلم ذاته، فيبدو مفككاً ونمطياً ويظهر الكاتب رامي كوسا هوسياً أكثر من كونه يبني الشخصيات. فتبدو لغة السينما ثقيلة عليه ولا يجيدها أبداً. وما يقوم بتكثيفه يبدو صوراً من الحياة بلا ربط واقعي.

السرد السريع والبلاغي الذي لا يحمل أي إبداعٍ منصفٍ لمقاربة الشخصية السورية الحقيقيّة أو حتى المفترضة. فإن اعتبر العمل مفترضاً فهو يبدو ساذجاً، أو جمالياً خفيفاً وغير إشكالي. الحوار دوماً بلاغي، بلاغي مبتذل ولا يملك النص إبداعاً أبداً. لا فنية في القول، والتعبير عن الذات للشخصيات مصطنع إلى درجة متوقعة. مشاهد وجمل متوقعة، وتركيب الحدث بسيط ولا يستحق بناء فيلم كامل عنه.

كذب فاضح
حتى الاستعارات الجمالية تظهر كأنها بحث رديء عن جماليات ضحلة لا تتصل بأي واقع سوري. يبدأ الفيلم بسرد البطل لحاله وتغيرات حياته ومصائب عائلته وصديقه، مُظهراً بالقول -وهو كذب فاضح- أن مشكلته بدأت باسم عائلته، كمقاربة للحرب الأهلية التي دارت بوصفها قتلاً على اسم العائلة، لا الطائفة. منذ البداية يكذب الفيلم ويفضح سذاجته بأن يجعل سوريا بفروقات أخلاقية غير طائفية، وضمن علاقات بشرية يُمكن فهمها إنسانياً؛ فوفقاً لفكرة الكاتب والمخرج لا علاقة للسلطة بسلوكيات المجتمع، ولا علاقة سببية بين أفراد المجتمع وإجرامهم وبين طبيعة السلطة والطريقة التي قادت فيها مجتمعها وقيمها الأخلاقية. ويبدو الأستاذ زياد شخصاً خفياً. اللاوعي الجمالي عند الرامي ساذج ومعيب في آن واحد. فما إن يلجأ الرامي إلى تحريك الشخصيات حتى يُظهر الخير والشر فيها عبر التصرفات غير التفصيلية، ويعاونه في ذلك المخرج، وكأننا أمام شخصيات لا نشاهدها. وعي طفولي للكاتب يجعله يصور مجتمعاً فيه العجزة ومبتوري الأطراف أقرب للملائكة؛ مستسلمين من دون نوايا شريرة ولا خيرة. هم بشر قُطعت أطرافهم وأصابهم العمى من دون حقد أو ضغينة أو فلسفة مسامحة حتى! وحتى من استسلموا للحرب الأهلية لا يملكون في حياتهم الخاصة كُل هذا البعد الاستسلامي العاطفي الرحيم، كأن لهذه الحرب ضحايا سذج، ضحايا غير إنسانيين ولا صلة لهم بالواقع. والفيلم يحاول جاهداً جعل الحرب بضحايا ضمن السياق، يصلحون لفيلم ولا فيلم يصلح لهم. بلاغيات إنسانية جمالية تصلح لأن تكون قصصاً مدهشة وكاذبة في آن واحد؛ فالحرب تبدو في الفيلم أقرب إلى صراع آلهة يونانية وبشر يرضون، بلا أي رادع أو انعكاس لما مروا فيه. يُشحَذ الفيلم بالعاطفة، وبابتسامة لا نعرف ما إذا كانت حقيقة أم لا. قيمة الأستاذ والأخ السيئ ابن العصابة، ثنائية الحكيم والساذج، الجلاد والضحية.


المسكين
أيمن زيدان بطل الفيلم بدا مسكيناً، افتقد لكل شيء داخل الفيلم، فلا اتساق فيزيائياً لحركة جسده التي تبدو رتيبة داخل الفيلم، ولباسه الذي بدا نمطياً غير ذكي مثل ملابس كل الشخصيات التي لا تتسق مع المكان. والحدث الأسلوبي المفاجئ دوماً للشخصيات تجعلك تظن أنها من دون وعي. في البداية وما إن يصل بطل الفيلم إلى القرية المُحاصرة، يسأل سائق الباص أن يقف عند مكان على حدود القرية المحاصرة، فيصور المخرج صدمة السائق وكأنها صدمة تراجيدية مسرحية، مع أنَّ السوري بات يعرف بديهيّاً أن هذه الصدمات المبالغ فيها قد فُقدت في الحرب، فالتأثر الفردي النمطي بات شيئاً متبادلاً وكنوع من السخرية. وعي البشر للحرب أكثر براغماتية من الصدمات التي يحاول رامي تأسيسها أو جوهرتها؛ أي سوري هذا الذي يصدم من القتل والحصار والقذائف؟ بداية الفيلم ونهايته والسرد الزمني في داخله فارغٌ من كل مركباته المتماسكة. يلجأ رامي إلى استعطاف ساذج بلا قيمة، في مشهد لعرس منزلي بسيط، لا يمتّ إلى الواقع بصلة، يجعل الطائرة العسكرية والصراع العسكري حدثاً مفاجئاً مُغيراً لسلوك الشخصيات وإحساساتها كُلها. وفي مشهد ساخر تماماً، تُفاجأ عائلة الأستاذ زياد من أنَّ أختهم تُطفئ النور في الغرفة وتبكي، ما يستدعي رداً سخيفاً من الأب الذي لم يرتعد لاعتياد ابنته المَرَضي على الجلوس في العتمة قائلاً لها: "بابا بدك تبطلينا عادة القعدة بالعتم".. هدف رامي يحمل استعراضاً رخيصاً عبر خلق شخصيات واضطراباتها النفسية. الثقافة الإبداعية الحقيقة لدى الكاتب والمخرج، تجعلهما يستدعيان مشاهداتهم الفوتوغرافية ووضعها داخل الفيلم، أكثر من تكوين صورة وسرد تفصيلي أو إنساني واقعي. مركبات عديدة لشخصيات وكأنها مجموعة على ورق ومرمية في نص غير جاد وميت في أصله. كل هذا لإنتاج حبكة درامية بسيطة ويُمكن لأي إنسان أن يملكها، فما قيمة أي فيلم إن كان سرده مُشابه في تفاصيل عديدة لحياة أي عائلة سورية، إن لم يكن الفن بالدرجة الأولى مُعيداً لصياغة ما تم فيه الواقع وعايشه؟ حتى الاستعارات التي يلجأ إليها الكاتب سرداً أو توصيفاً مُهينة للعقل السوري الحديث، كوضع أسماء العائلات الآتية للعرس في المنزل، الاستعطاف الغبي؛ "طاولة أبو محمد، طاولة أبو الياس"، "تشبهين الفراشة"، "تشبهين أمك يوم عرسك" أو قول الأعمى لشقيق العروس على المرآة: "شايف روحك".

حسية فوقية
لا يملك الكاتب أي حداثة في طريقة الكتابة، ولا ذكاء في تحويل الجمال البسيط إلى سينما، بل يخترعه من نظرة حسية فوقية. يملك رامي والمخرج مقومات ذكاء المجتمع المتجانس الذي خلقه الأسد، الذي يحتفي بشخصية تدمج سوريا ما قبل الحرب وما بعدها في سياق واحد، تصوير دور الفرد لا السلطة، والادعاء بأنّ الجمال يكمن البساطة الحقيرة المُكتفية، في إنكار وقح للقهر السوري الذي أودى بنا إلى ذائقة رديئة وبائسة. فضلاً عن الشخصيات المتكاثرة من دون معنى، والتي تملك أوضاعاً غير متسقة ومفاجئة. ما يفوت رامي علمياً أن تدارك الفيلم هو تدارك ذكي وتفصيلي؛ في السينما لا مكان لإعطاء الحدث مجالاً استعراضياً، بل إنّها اتساق معرفي قبل أي شيء لمحاولة الخلق الصوري والإبداعي وبالتالي تشكيل الحدث. المباشرة في خلق الحدث بالتعاون مع شخصية البطل كأننا كسوريين نملك تاريخاً شخصياً واحداً؛ هو تعميم يحمل طابعاً إجرامياً لأنه يأتي عبر الفن، السيناريو شديد المباشرة هو إهانة مغلّفة بصورة نتلقاها جماعياً، لكن للأسف لا نجاح لكل هذا.  

الفيلم يُدين المجتمع
ما قيمة فيلم درامي طويل من دون حبكة، والأهم من دون مجال تخصصي يفهم النفس البشرية واحتياجها وصلتها بالواقع؟ الفيلم مفترض جداً وبِقِيم غير حقيقية وغير متصلة بالواقع، والأهم أنّها خالية من السياسة. الفيلم يُدين المجتمع، خالقاً مجتمعاً ينجذب إلى أيّ فاشية دينية أو عسكرية بوصف السياسة عيباً، والنضال من أجل البقاء في الوطن أضحوكة. في السينما ضحك الناس كثيراً على مشاهد تصور صراع السوري بين البقاء أو الخروج من البلاد، أو تخلق بشراً في هيئة آلهة، بانتقالهم من قمة الغضب إلى الحكمة، وكوميديا ساذجة لدور المرأة في الريف، تصف المرأة على أنها حكيمة وحالمة ومُحبة دائماً، من دون صلة واقعية بالكبت السوري أو الحزن النسوي حتى. ولا عتب على جودت سعيد، الذي لا يملك أي ثقافة عن الإضاءة التصويرية، حينما يقدّم مشهد الفانوس من دون ضوء أصفر، والشمعة تظهر من دون معنى للظلمة، فيكون الضوء في مشاهد الفيلم إضافة لا معنى لها؛ فكثيراً ما بدت الشمعة صورة أكثر من كونها طاقة أو ذات معنى تأويلي. أليس فقيراً لنا أن يبدو شباب من سوريا في بداية عمرهم خبثاء إلى هذه الدرجة ليستغلوا السوريين الآخرين وعطشهم من أجل السينما وتقديم أفكار وصور لا تستحق الذكر حتى.. إنَّ تمثيل الحرب يحتاج إلى معاناة ووقت ودراية. موهبة رامي مفتعلة أكثر من كونها صادقة وإبداعية، فيها مخيلة لا تعرف سوريا أبداً، بل تحاول صنعها افتراضياً. قلة نضج رامي تظهر حتى في صفحته وكتاباته التقليدية التي لا تملك أيَّ حسٍّ معرفي أو عاطفي عميق، يقدس الأب ويقدس الأم ويقدس العاطفة في المجتمع، كدليل على ثقافة سائدة ليست تنويرية أبداً، وليست حقيقية إطلاقاً، فيبدو مثقفاً فاشلاً، يطوّع الجمال ليتناسب مع حرفته الكتابية، خالية من أيّ جمال أو عبقريَّة. هم يشاهدون حياة لا يعرفون منها سوى ما يتخيلونه جميلاً وغير ممكن. أما جود سعيد فلا مجال لأي تقييم له، سوى وقوع عدسة التصوير مصادفةً بين يديه. هذا الاستخفاف بالناس مُعيب لا بالأفكار التي يطرحونها فقط بل بكل ما يفعلونه أصلاً.

فقدان الموهبة
الحزن على أيمن زيدان واجب؛ عندما يظهر عليه عدم إحساسه بالفيلم، أو أن تقدمّه في السن قد أفقده الموهبة، وكأنَّ صراعاً ما بين لا وعيه ووعيه يجعله ممثلاً بارداً وفاقداً لأي ذاكرة مسرحية عن تقنية استخدام الصوت الإنساني للتعبير العاطفي والكياني، ولولا عدسة التصوير لما ظهر مُطلقاً. هذه الرداءة انتقلت إلى مصر؛ المجتمع المتجانس ناسَب نظام السيسي فحصل الفيلم على جوائز، وقد يحصل على غيرها. هذا النمط التقهقري سيصنع مستقبل الثقافة العربية وفنّها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها