الثلاثاء 2021/06/29

آخر تحديث: 12:30 (بيروت)

دانتي يلتقي بياتريشي في الطبقة الثالثة من وردة السماء

الثلاثاء 2021/06/29
increase حجم الخط decrease
في "الحياة الجديدة"، روى دانتي قصة لقائه بملهمته بياتريشي التي رحلت باكراً عن هذه الدنيا، وسكنت "سماء الخشوع"، بعدما فتحت أمامه "عهد الصبا" و"ربيع الحياة". في "الكوميديا الإلهية"، تعود بياتريشي، فتنزل لوهلة من علياء الفردوس، وتخرق حجب الجحيم لترسل الشاعر فيرجيليو فيقود دانتي في رحلته من أطراف الجحيم إلى أقاصي المطهر حيث تظهر ثانية في الفردوس الأرضي، ثم تصعد مع من أحبّها وقدّسها، وتقوده إلى طبقات الفردوس السماوي.

في منتصف طريق الحياة، وجد دانتي نفسه وسط غابة مظلمة وهو مثقل بالنوم، وضاع "في الطريق الذي لم يدع أبداً إنساناً حياً"، كما جاء في ترجمة حسن عثمان. بعد ليلة موحشة، بلغ في أول الصباح سفح تلة، يضيئها شعاع الشمس، فاستبشر خيراً، غير أنه سرعان ما وجد أمامه ثلاثة وحوش وقفت في طريقه، ففقد الأمل في بلوغ القمة. وبينما كان يهم بالرجوع إلى الموضع الخفيض، ظهر أمامه رجل صامت، فصاح به: "كن رحيماً بي، كائناً من كنت، شبحاً أو انساناً حياً"، فأجابه: "لست إنساناً، وكنت من قبل إنساناً"، وذكر أنه ولد في عهد يوليوس قيصر، وعاش في روما، "في عهد الآلهة المزيفين الكاذبين"، وانه كان شاعراً تغنّى بالملك أينياس "الذي جاء من طروادة" إلى إيطاليا، ثم نصحه بأن "يرتقي الجبل السعيد الذي هو لكل سعادة مبدأ ومنبع"، بدلاً من أن يعود إلى الوراء.

أدرك دانتي أنه أمام الشاعر العظيم فيرجيليو، "النبع الذي يفيض بالكلام نهراً كبيراً"، وقال له: "أنت أستاذي ومرجعي، وأنت وحدك من قبست عنه الأسلوب الجميل، الذي أضفى عليَّ المجد"، وطلب منه المعونة وهو يجهش البكاء، فقبل فيرجيلو بأن يكون دليله، وتحرّك، وبقي دانتي من ورائه، وشعر بالخوف، وساوره الشك في قدرته على متابعة هذه الرحلة الشاقة، فقال له فيرجيليو إنه جاء إليه بعدما ظهرت أمامه "سيدة جميلة مباركة السماء تألّقت عيناها أكثر من النجم"، وراحت تخاطبه في رقة ولطف، "وفي لغتها صوت الملائكة"، وطلبت منه أن يساعده، وأضافت: "أنا بياتريشي، التي أبعثك إليه، اني آتية من مكان أرغب في العودة إليه، لقد حرّكني الحب الذي يجعلني أتكلّم"، وحكت له كيف نزلت من عليائها في السماوات لكي تطلب منه أن يكون دليل دانتي ومرشده في محنته.

كيف تركت بياتريشي السماء لتهبط لوهلة إلى هذه الهاوية؟ ضلّ دانتي طريقه في غابة مظلمة، وتعرّض للمخاطر، وعرفت العذراء مريم بما أصابه، فنادت القديسة لوتشيا، وأومأت إليها بأن تدفع بياتريشي لإنقاذ من أخلص لها بالحب، فاستجابت لوتشيا، وقالت: "بياتريشي، يا مجد الله الحقّ، لم لا تسعفين ذلك الذي أحبّك كثيراً، حتى خرج في سبيلك من غمار الناس؟ ألا تسمعين الأسى في بكائه، ألا ترين الموت الذي يصارعه؟". هكذا لبّت بياتريشي النداء، فهبطت من أعالي السماء، وقصدت فيرجيليو، وحملته إلى أن يبادر إلى تخليص دانتي من الشر والأذى، فامتثل فيرجيليو لأمرها، وهبّ لأداء مهمته في ارشاد دانتي، واستعان باسم بياتريشي لكي يمده بالشجاعة والعزم.

من الجحيم إلى المطهر
استعاد دانتي قوته، وقال: "ايه أيتها الرحيمة التي عاونتني، وأنت أيها الكريم الذي أطعت سريعا كلمات الصدق التي أفضت بها إليك. لقد وجّهت قلبي بكلماتك إلى الرغبة في المسير، وبهذا رجعت إلى قصدي الأول. الآن سر، فإن لكلينا رغبة واحدة، يا دليلي وسيدي وأستاذي". هكذا تبدأ رحلة دانتي الطويلة في الجحيم وهو يسير خلف فيرجيليو، فيسمع صرخات المعذبين، ويبلغ الحلقة الأولى، مقر عظماء العالم الذين قضوا قبل ظهور المسيح، حيث "الألم بغير تعذيب". يقول له أستاذه: "انهم لم يأثموا، واذا كانت لهم فضائل، فهي لا تكفي، لأنهم لم ينالوا التعميد، الذي هو باب للعقيدة التي تؤمن بها. وإذا كانوا قد عاشوا قبل المسيحية، فإنهم لم يعبدوا الله كما ينبغي، وأنا نفسي واحد من هؤلاء". يلتقي دانتي بطائفة من مشاهير الأساطير، ثم يلتقي بطائفة من مشاهير رجال التاريخ، ثم يواصل مسيرته خلف فيرجيليو، ويبلغ الحلقة الثانية، ويسمع عويل الآثمين "الذين يخضعون العقل للشهوات"، ويلتقي بطائفة منهم. تتواصل المسيرة، ويبلغ الشاعران حلقة الذين ارتكبوا خطيئة الشره والنهم، ثم حلقة البخلاء والمسرفين، وبعدها حلقة الطغاة. تنتهي هنا حدود الجحيم العليا، وتبدأ حدود الجحيم السفلى المكوّنة، وهي من أربع حلقات تتكون كل منها من طبقات عديدة. في نهاية المطاف، يبلغ دانتي برفقة فيرجيليو عالم الضياء، ويخرجان من ثغرة مستديرة، ويستعيدان معاً "رؤية النجوم".

تبدأ رحلة المطهر الشاقة، والمطهر هو "المملكة الثانية، حيث تتطهّر الروح وتصبح جديرة بالصعود إلى السماء"، وهي مؤلفة من سبع حلقات، وهي تباعاً حلقات الخطايا السبع المميتة: الغرور، الحسد، الغضب، الكسل، الجشع، الشراهة، الغضب، الكسل، والشهوة. في مستهل هذه المسيرة، يستنجد دانتي بربات الشعر المباركات كي يصف زرقة السماء التي أعادت البهجة إلى عينيه عند خروجه من الهواء الميت الذي أحزن قلبه، ثم يرى "أربعة نجوم لم تبصرها بعد أول البشر عين أبداً"، وهي الفضائل الرئيسة الأربع. يلتقي الشاعران بحارس المطهر كاتو الذي يستغرب حضورهما، فيجيبه فيرجيليو: "انني لم أجئ من تلقاء نفسي، بل لقد نزلت من السماء سيدة، وبرجائها أسعفت بصحبتي هذا الرجل. لقد أريته كل الآثمين من الناس، وقصدي الآن أن أظهره على تلك الأرواح التي تطهّر نفسها تحت سلطانك".

يلتقي دانتي خلال هذه الرحلة الطويلة بطائفة من التوابين، وعند بلوغ عتبة الفردوس الأرضي، يلتقي الشاعر ستاتشيوس الذي يقوده إلى سيدة جميلة ترقص فوق الأزهار. تُدعى هذه السيدة ماتيلدا، ويتّضح من كلامها أنها ترمز إلى الطبيعة البشرية قبل ان تعرف الخطيئة الأصلية. يرى دانتي موكباً إلهياً، فيرافقه، وعند توقّفه، يعلو صوت يستعيد قول "نشيد الأناشيد": "تعالي يا عروستي من لبنان". "بين سحابة من الأزهار التي تصاعدت من أيدي الملائكة، وهوت إلى باطن العربة وإلى خارجها"، يرى دانتي "سيدة تكلّلت بغصن الزيتون فوق نقابها الابيض، وارتدت ثوباً في لون الشعلة المستعرة، تحت عباءة خضراء". يشعر بالسلطان العارم لحبه القديم، و"بالسحر الخفي الذي انبعث" من محبوبته، ويذكر "تلك السهام التي جرحته بها من قبل أن يتجاوز عهد طفولته"، ويبوح لفيرجيليو: "لم تعد في أوصالي قطرة دم لا ترتجف، وإني لأعرف علائم الشعلة القديمة"، غير أنه يكتشف أن فيرجيليو مضى وتركه وحيداً.

هكذا يجد دانتي نفسه وحيداً أمام ملهمته التي تتجه بعينيها نحوه وتخاطبه: "ألا فلتنظرني جيداً، ألا تدري أن هذا موئل السعداء؟". تمضي بياتريشي في تعنيف الشاعر، وتذكّره بما ارتكبه من خطايا، وتسأله عن المغريات التي أضلته، فيجيبها باكياً: "لقد انحرفت بخطواتي الأشياء الماثلة أمامي بزائف لذّتها حينما توارى وجهك عنّي". تواصل بياتريشي تأنيب دانتي وتذكّره بما فعلته من أجله، فيقف صامتاً مطرق الرأس ثم يهوي فاقداً وعيه. تسأله ماتيلدا أن يمسك بها، وتعبر به النهر الذي يطهره من آثامه، وترنّم الحوريات: "فلتتجهي يا بياتريشي، فلتتجهي بعينيك المباركتين إلى المخلص لك، الذي قطع لرؤيتك كل هذا الشوط. وأفيضي علينا من فضلك، واكشفي له عن ثغرك حتى يتبيّن اشراق مالك الثاني الذي تجعلينه خافياً عليه". يستغرق دانتي في النظر إلى بياتريشي حتى يفقد الوعي، وفي ختام هذه الوقفة، يولد من جديد، ويختم رحلته الطويلة في المطهر بالقول: "عدت من أعظم الأمواج قدسية مولوداً جديداً، كالأشجار الجديدة التي تتجدّد ببزوغ أوراقها الوليدة. وصرت طاهراً مؤهلاً للصعود إلى النجوم".

في سماوات الفردوس 
تبدأ رحلة دانتي إلى الفردوس السماوي، وتلعب بياتريشي في هذه الرحلة دور المرشد الذي قام به فيرجيليو في الجحيم وفي المطهر. والفردوس في هذه الرحلة مؤلف من تسع سماوات لكل منها كوكب، إضافة إلى سماء عاشرة تعلوها، وهي سماء السماوات. تبدأ الرحلة في سماء القمر، وتليها سماء عطارد، ثم سماء الزهرة. بعدها تأتي سماء الشمس، وتليها سماء المريخ، ثم سماء المشتري، وسماء زحل. تشغل كل سماء من هذه السماوات السبع، طبقة من طبقات الملائكة، وتعلوها السماء الثامنة، وهي سماء النجوم الثابتة، ويشرف عليها الكاروبيم، وتليها السماء التاسعة، هي السماء البلورية، ويشرف عليها الساروفيم. تخرج السماء العاشرة عن حدود السماوات، وهي سماء "النور الخالص"، وهو "نور روحاني مفعم بالمحبة، بمحبة الخير الحق، المليء بالبهجة التي تسمو على كل عذوبة". هذه السماء هي مقرّ الله والقديسين، وكلها أنوار، وهي على صورة وردة هائلة بيضاء "تمتد وتتدرج، وتبعث أريج أمدوحة إلى شمس الربيع الدائمة أبداً".

يرى دانتي هذه الوردة وتأخذه الدهشة، فيلتفت إلى بياتريشي، لكنه لا يجدها. يحل القديس برنار، فيسأله: "أين هي؟"، فيجيبه: "لقد دفعتني بياتريشي من مكاني لكي أصل برغبتك إلى غايتها". يدله القديس إلى موضع محبوبته في الطبقة الثالثة من أوراق وردة السماء، فيتطلّع إليها ويقول: "أيتها السيدة التي يحيا بها أملي، والتي احتملتِ في سبيل خلاصي أن تتركي آثار قدميك في الجحيم، اني معترف بأن الفضل واللطف في كل ما رأيته من الأشياء، إنما يرجع إلى ما لك من الفضل والنعمة".

في الختام، يدعو القديس برنار الشاعر إلى رؤية "مليكة السماء"، أي مريم العذراء، ثم يوضح له موقع أرواح الطوباويين في وردة السماء. يمجد دانتي العذراء في صلاة بديعة، ويحظى برؤية الثالوث الإلهي، فتخبو قواه أمام هذه الرؤيا، غير أنه يلتمسها "بالحب الذي يحرك الشمس وسائر النجوم".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها