الأحد 2021/06/27

آخر تحديث: 10:54 (بيروت)

الاستهلاك ضد نظامه

الأحد 2021/06/27
الاستهلاك ضد نظامه
تكون الخطبة ضد الاستهلاك هي خطبة ضد الطبقات الشعبية
increase حجم الخط decrease
مع بداية الانهيار اللبناني، راجت خطبة، مفادها الحث على الإبتعاد عن الاستهلاك. وقد وجدت هذه الخطبة تجسيداً لها في تلك الدعوة الشهيرة إلى التوجه نحو زراعة الشرفات أو أي مساحة على سبيل إنتاج ما تيسر من احتياجات مطبخية وسواها. وبالتوازي مع هذه الخطبة، صارت تذيع، من وقت إلى آخر، مقولات من قبيل ان الانتظار في الصفوف أمام المحلات مرده هو حب الاستهلاك، بالتالي، يكفي التخلي عن هذا الحب، لكي لا يعود هناك زحمة، ولكي لا تعود هذه الزحمة تؤدي إلى جو من الهلع. في النتيجة، الانتهاء من الاستهلاك يخفف من الانهيار اياه، لا بل إنه، وحين يزول بالكامل، قد يبدو ان هذا الانهيار لم يكن سوى من صنيعته. في هذه الجهة بالتحديد، لا بد من الاتكاء الايجابي على الانهيار، يعني الاستفادة منه كظرف للاقلاع عن الاستهلاك.


ما يهم من وضع هذه الخطبة ضد الاستهلاك هو بدايةً انها، وكخطبة نظامية، تشير إلى ما يمكن اعتباره مفارقة نوعاً ما. إذ غالباً ما كان طرح تلك الخطبة، وبالبعيد عن تنوع تشكيلها، يرتبط بادراجها في سياق مواجهة الرأسمالية على أساس أن الاستهلاك يشكل نسقها، الذي لا يؤدي سوى إلى إنتاج فرد مغترب عن حقيقته الواقعية. فقد كانت تلك الخطبة تبغي تعطيل هذا النسق، وبالتالي، توقيف اغتراب ذلك الفرد، أو تخليصه منه. ولكن، في لبنان، النظام نفسه، الذي يطعن في رأسمالية متطرفة وظلامية، يرتكز على تلك الخطبة من أجل استمراره. وهذا ما يحمل إلى  ملاحظات عديدة. أولها، ان ذلك النظام يبدو، وبإرتكازه على الخطبة، أنه يزاول نقداً ذاتياً، كما لو أنه يريد التخفف من نسقه الاستهلاكي. وبهذا، هو لا يزاول النقد فقط، إنما يحقق ثورة على النفس أيضاً. طبعاً، هذه الملاحظة تشير إلى ان النقد الذاتي والثورة على النفس، هما منه، هما مما يضمناه.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن ملاحظة ان النظام، وحين يرتكز على تلك الخطبة، فهو يحذو حذو غيره من الانظمة التي تستخدمها بطريقة محددة. هذه الطريقة تفيد بالفصل بين استهلاك الطبقات الميسورة واستهلاك الطبقات الشعبية، ثم تقديم الأول كأنه ليس استهلاكا، لا سيما ان أغراضه ومواضيعه على جمالية ما، أما، الثاني فإبرازه كأنه هو الاستهلاك. بالتالي، وحين تنطلق تلك الخطبة، فذلك ضد استهلاك الطبقات الشعبية التي تصير، وبفعلها، مغتربة، وغبية. فاستهلاكها هو دليل على كونها ليست فاعلة، بل مجرد أرهاط ممتثلة للسوق، ولقانونه. بهذا المعنى، تكون الخطبة ضد الاستهلاك هي خطبة ضد الطبقات الشعبية، تكون خطبة لاحتقارها، لاحتقار وجودها، اي تكون خطبة مسكونة بالنظام الذي تكونت في الأساس ضده.

ملاحظة اخرى، تتعلق بتنميط الخطبة، وقبل الارتكاز عليها من قبل النظام، للاستهلاك. اذ ان الخطبة تتحدث عن الاستهلاك كما لو أنه واحد، أو كما لو أنها تختزله بنمط واحد لا غير. لكنها، وحين تحض على الإقلاع عنه، فهي لا تفعل شيئاً سوى تحقيق خلاصته! بحسب هذا النمط، لا يؤدي الاستهلاك في خلاصته إلى أي علاقة مع أغراضه ومواضيعه، إنما يؤدي إلى القضاء عليها: استهلاكها من أجل هلاكها. من هنا، يصير الحض على الاقلاع عن الاستهلاك من قبل الخطبة، بمثابة حض على بلوغ خلاصته التي يتكثف فيها. إذ إن الاثنين، اي الاستهلاك بحسب ذلك النمط والاقلاع عنه يحملان إلى الانتهاء من الأغراض والمواضيع. فالاستهلاك المنمط يؤدي إلى زوالها، وكذلك، الاقلاع عنه، وبهذه الطريقة هما يتماثلان، وبهذه الطريقة، الالتزام بالثاني هي مزاولة كاملة للأول.

في السياق نفسه، قد يصح القول إن الخطبة، وبتحديد الاستهلاك بنمط دون غيره، فهي تنفي  كل ما يمكن اعتباره تدابير استهلاكية تفترق عن ذلك النمط من ناحية العلاقة مع الأغراض والمواضيع. هذه التدابير تنطلق من كون الاستهلاك، وتماماً كما في حال الطبقات الشعبية، بمثابة السبيل الممكن أو المتاح لمدها علاقات مع الأغراض والمواضيع بما هي من طرقها لبناء عوالمها. فيصير الاستهلاك، وفي إثر تلك التدابير، في خدمة الاقتدار، في خدمة محاولاته.

ملاحظة أخيرة، ان النظام  بارتكازه على الخطبة من أجل الحض على الإقلاع عن الاستهلاك، هو يريد من تلك الطبقات توقيف تدبيراتها الاستهلاكية، يريد أن تقطع علاقاتها مع الأغراض والمواضيع، ان يدمّر عوالمها. ولهذا بالتحديد، لا بد من الاستهلاك بما هو هذه المرة تمسك بتلك العلاقات، بالحق في بناء العوالم، وبما هو أيضاً دفاع عن تلك الأغراض والمواضيع في مواجهة نظام هلاكها. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها