الأربعاء 2021/06/23

آخر تحديث: 12:44 (بيروت)

نومادلاند: أزمة البداوة

الأربعاء 2021/06/23
increase حجم الخط decrease
ليس فيلم "نومادلاند" (أرض البداوة) لكلوي جاو، فيلماً عن البداوة بقدر ما هو فيلم عما يمكن أن اسميه من دون تمهل في التسمية، أزمتها. فهذا الفيلم يروي رحلة بطلته فيرن (فرانسيس مكدورماند)، التي، وبعد خسارتها لبيتها وزوجها وعملها في نيفادا، تركب ڤانها، محولة اياه إلى منزلها، وتبدأ بالتنقل في أنحاء البلاد. بالتالي، تنقلها هذا، وقبله، إقامتها في الڤان، هو بمثابة المرادف لبداوتها، التي تبدو، أولياً، رداً على تلك الخسارة، أو، وبعبارة أخرى، محاولة لتصريفها. هذا التصريف من قبل فيرن بواسطة بداوتها هو جنازة لما خسرته في عيشها الماضي، وعلى رأسه البيت، الذي، وفي حين أنها تحاول دفنه، يبدو، وفي خاطرها، أنه محل للكارثة. بطريقة اخرى: لا تقيم خلال الجنازة في أي منزل لكي تواري منزلها الثرى، ولكي لا تتكرر كارثته في أي منزل غيره.

لكن، أن تغدو البداوة شكلاً من أشكال الجنازة، فهذا لا يحرز معناها، إنما، فعلياً، يشارف عليه. فالبداوة ليست دفناً للماضي، إنما هي، فعلياً، تبدأ حين يُدفن، ولا يمكن أن تحضر سوى حين يتلاشى. "البدو لا ماضي ولا مستقبل لهم"، كان يقول فيلسوف عظيم، وبهذا، بداوة فيرن، التي كانت خلالها تودع ماضيها، لم تبرز كبداوة، لكن كتطلع اليها، كتعرّف عليها. وربما، من هنا، تنم سمة من السمات الأساس للبطلة، وهو ترددها حيال من تلتقي منهم على الطريق. لا يمكن، وفي أثناء مشاهدة الفيلم، طرد شعور أنها ليست مع جماعات البدو الذين تلتقيهم، أي أنها ليست منخرطة فيها، إنما ما زالت تنظر إليها من مسافة ما. هذه المسافة تتيح لها العودة إلى ڤانها، والاختلاء بصحونها العزيزة عليها، وهذا، بالتوازي مع استمرارها في دفن مفقودها.

فيرن تتكئ على البداوة لأجل جنازتها، أما البداوة في حد ذاتها، فليست مؤكدة من ناحيتها بعد.

في الواقع، ليست أزمة البداوة مرتبطة بأنها شكل لسيرورة جنائزية، وليست الأزمة أن هذه السيرورة، وحين يصورها الفيلم، يستند الى الكليشيهات النفسية ذاتها عن مراحل الفقدان. لا تتعلق الأزمة بذلك كله، وهذا، مع أنه جزء منها بالطبع، إنما بشيء ثان: بداوة فيرن ليست مشروعاً، وللدقة، ليست مشروعاً ثورياً، يؤدي إلى استقلال ما عن النظام الطاغي، عن النيوليبرالية، عن الظلامية الرأسمالية. تلك البداوة ليس لها بُعد ثوري، بل إنها، وفي حين دورانها، تبدو محلاً للشركات وماركاتها، كما تبدو، وهذا الأهم، أنها نتيجة هشاشة معيشية، أو بالأحرى من إنتاج الدخول في دورة إنتاج، لا تؤدي سوى إلى هذه الهشاشة الدائمة. بهذا، البداوة ليست مشروعاً ثورياً للانفصال عن تلك الدورة، بقدر ما هي من إنتاجها، وبقدر ما أن هذه الدورة تستفيد منها. كما لو أن البداوة هي طريقة عيش تلائم دورة الإنتاج في "آمازون" أكثر مما تلائم صاحبتها، أي فيرن نفسها!

بالإضافة إلى مرادفة البداوة والجنازة، وجعل البداوة لا ثورية فيها - جزء ثالث من أزمة البداوة: خطبتها، أكانت المتعلقة بمدونتها، أو بما تقوله، أو المتعلقة بانفعاليتها. فها هي فيرن تقف مع مجموعة من المتنقلين، الذين يحيطون بأحد المعلمين خلال حديثه معهم عن تجربته. يتكلم كما لو أنه مدرب حياة، أو مدرب على التطوير الشخصاني، بحيث يرتكز على تلك الجمل التحفيزية من قبيل "إن آمنت بنفسك لن يوقفك أحد". وهذا ما يبرز البداوة على مدونة "العادات والتقاليد" الفردانية. أما الشق الانفعالي من الخطبة، فيشير اليه جوّ الفيلم بشكل عام، إذ أنه جوّ حزين ومكفهر، لا تكسره سوى بعض الصور الطبيعية التي تقدمها الكاميرا بطريقة انستغرامية، اي كأنها من الصور التي تصنعها فلاتر التطبيق التواصلي. بذلك، لا تعود البداوة على انشراحها، على ألوانها، على بريقها، على ربيعها، انما تنقلب إلى كونها مسكونة بالغم الذي لا يبدده سوى انتهاء فيرن من بيتها الماضي، أي زيارتها له بعد دفنه. عندها تنقضي بداوتها كجنازة من دون الحسم في كونها ستخلص إلى بداوة أخرى أم لا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها