الإثنين 2021/06/14

آخر تحديث: 12:38 (بيروت)

مصطفى.. كلمات ضد الرصاص والإسلاموفوبيا

الإثنين 2021/06/14
مصطفى.. كلمات ضد الرصاص والإسلاموفوبيا
لم يصبح مصطفى نجماً في أخبار الشرطة والجريمة، بل غطّت أخباره نيويورك تايمز وغارديان ونيويوركر
increase حجم الخط decrease
ريجنت بارك هي أقدم وأكبر مستوطنة اجتماعية في كندا. تقع في جنوب تورونتو، وقد بُنيت في أواخر الأربعينيات في موقع حي فقير سابق كمشروع إسكان عام، وتطوَّرت لتصبح واحدة من أكثر المناطق خطورة في المدينة. الآن يجري العمل على تطويرها تدريجياً، لكن حينما نشأ فيها مصطفى أحمد (1996)، كان العنف وحروب العصابات ما زالت تميز المنطقة. مات العديد من أصدقائه. أحدهم كان علي رزيق الذي قضى في حادث إطلاق نار في ريجنت بارك العام 2017، عن عمر لم يتجاوز الـ18 عاماً.

الآن، يُهدى مصطفى صديقه الراحل أغنية باسمه، ضمن ألبومه الأول "عندما يتصاعد الدخان" (إصدار تسجيلات ريجنت بارك/المتسولون). على إيقاع غيتارات سريعة ونغمات خافقة خافتة، يغني اسمه مراراً وتكراراً، متذكراً الأحلام الصغيرة والليالي المشتركة. "علي / أنت تعلم أن قلوبنا على أشدّها / علي / لم تكن هناك كلمات لإيقاف الرصاص"، الأبيات المركزية للأغنية تتكرر. الكلمات لا تستطيع وقف الرصاص لكنها كل ما يملكه مصطفى. بها، يحفظ ذكرى أصدقائه الموتى ويصونها. "إنها رسالة حبّ إلى إخوتي"، يكتب الشاب ابن الـ24 عاماً في كتيب ألبومه، المستوحى عنوانه من مغنّي الراب Smoke Dawg، الذي قُتل بعد إطلاق النار عليه في وضح النهار خارج ملهى ليلي في تورونتو في العام 2018. الألم واليأس يتخللان كلّ أبيات الألبوم، إنما تغلّفهما رقّة وحنان. يندب مصطفى ويؤوي هذا الألم، ويطلقه في موسيقاه ليس فقط كشفاء شخصي، لكن أيضاً جماعي يشمل الآخرين ممن يعانون الصراعات المُربكة نفسها، ويضطرون إلى التأقلم مع التغيير من حولهم في ظلّ نقص الدعم من الآخرين.

مصطفى، الذي يوقّع أعماله باسمه الأول فقط، يشمل العائلات والحي كله في حداده. مرة تلو أخرى يبدو في غنائه سُلطةَ توبيخ وتحذير. مثلاً، في جوقة الأغنية الافتتاحية "ابق على قيد الحياة"، يناشد الشباب من حوله عدم السير في طريق لا يمكنهم العودة منه، طالباً منهم، فقط، أن يبقوا أحياء. في فيديو الأغنية، يظهر محاطاً بشبابٍ أمام البنايات المنخفضة الطوبية لريجنت بارك، والتي وصّلت بها أطباق الأقمار الاصطناعية وكاميرات المراقبة. "هذه الكاميرات ورجال الشرطة / كان من الممكن أن نصبح نجوماً / على شاشات أخبار أمهاتنا"...

لم يصبح مصطفى نجماً في أخبار الشرطة والجريمة، بل غطّت أخباره "نيويورك تايمز" و"الغارديان" و"نيويوركر"، وهذا التحوّل الكبير في حياة الشاب الكندي المسلم الأسود، له علاقة كبيرة بأخته الكبرى، ناماريج، التي شجعته على كتابة الشعر في سنوات مراهقته الصعبة. وهو ما أتقن فعله، لدرجة أنه أصبح من المشاهير المحليين عندما كان مراهقاً، وعيّنه رئيس الوزراء جاستن ترودو في مجلس الشباب الاستشاري. الآن لا يريد مصطفى أي علاقة تربطه بالسياسي، بعدما تحطمت آماله في تحسين ريجنت بارك.



بدلاً من ذلك، طوَّر نفسه ليصبح أقرب ما يكون إلى مُرشد لبيئته، شغّيل اجتماعي وأخ أكبر لمجتمعه. يتألق هذا بوضوح في الألبوم، مثلاً في أغنية "القوات الجوية" عندما يؤكد لصديق يخرج إلى الشارع ليلاً، خلافاً لنصيحته، أنه سيبقى مستيقظاً من أجله: "فقط اعرف أنني أهتم / سأهتم دائماً وسأكون مستيقظاً". تحتوي الأغنية على عينة من الأناشيد الطقسية السودانية، والتي تشير إلى أصول مصطفى، إذ هاجر والداه من الدولة الإفريقية إلى كندا في منتصف التسعينيات، ومصطفى هو ثاني أصغر الأبناء من بين ستة أطفال.

عانت الأسرة، الفقر، كما الإسلاموفوبيا التي أخذت حظها من الانتشار في أوساط المجتمع الكاريبي الذي عاش في ريجنت بارك لبعض الوقت. أسّس والد مصطفى مسجداً حيث أمضى المغنّي، الذي يعيش الآن جزئياً في لوس أنجليس، الكثير من الوقت أثناء طفولته. إلى اليوم، ما زال الإيمان الديني مهماً بالنسبة إليه ولا يخجل من إظهاره، من بين أشياء أخرى، في ملبسه وطاقية الصلاة على رأسه، وأيضاً بالتضرع إلى الله على ظهر كتيب ألبومه باللغتين الإنكليزية والعربية. يجد إيمانه ودينه طريقه إلى موسيقاه في أغاني مثل "ماذا عن الجنة؟"، حيث يجاور بين بعض وفيات أصدقائه وتنشئته الدينية. يرى مصطفى موسيقاه وسيلة لتعزيز الإيجابية والتفاهم حول عقيدته الإسلامية. بهذا المعنى، يعمل تعبيره الصريح والصادق عن تجربته، كمسلم أسود، على إعطاء الصوت لأولئك الذين يعانون في صمتٍ أزمات المجتمعات المحرومة والقمع الديني والافتقار العام للوعي أو نقص الرعاية من الآخرين. ومثل أحد مُثُله العليا الموسيقية، ريتشي هافنز، الذي أُخذ بأدائه في وودستوك بعدما عثر على تسجيل له، يطمح مصطفى إلى فعل الشيء نفسه لمجتمعه وأمثاله من خلال كتاباته وموسيقاه.

موسيقياً، فإن مصطفى، الذي شارك في تأسيس مجموعة الهيب هوب "عصابة الحلال" Halal Gang، يمكن اعتباره ضمن فئة المغنيّن-كتّاب الأغاني. قد يبدو هذا مفاجئاً في البداية، لكن في صغره، استمع مصطفى إلى موسيقيين مثل بوب ديلان وجوني ميتشل وريتشي هافنز وكات ستيفنز، إضافة إلى موسيقى الراب بالطبع. كان مواطنه ليونارد كوهين، ذا أهمية كبيرة أيضاً. في مقابلة مع مجلة "بيتشفورك" الموسيقية، يتذكر مصطفى تفكيره في ذلك الوقت: "يمكنني تطبيق فهم هذا الرجل الأبيض للّغة، على مجتمعٍ ربما لم يُعرض عليه هذا من قبل". أثناء تسجيل ألبومه الأول، أعجب بزميل أبيض آخر: سُفيان ستيفنز، الذي عالج وفاة والدته في ألبومه الرائع "Carrie & Lowell" في العام 2015، عائداً إلى جذوره الموسيقية الأولى المستقلة.

مستعيناً بتاريخه السماعي وتجربة نشأته في ريجنت بارك، يؤسس مصطفى موسيقى شعبية معاصرة، تتناول القضايا التي تؤثر فيه كشاب مسلم أسود يعيش في كندا في أوائل القرن الحادي والعشرين. آملاً في خلق معادل مماثل من التعبير والحرية لمَن هم مثله، يسخّر مصطفى براعة وقوة موسيقى الفولك، سبيلاً فنياً لإعلاء صوته والإدلاء بتعليق اجتماعي شخصي وصادق على التحديات الضاغطة عليه وعلى مجتمعه، مقدّماً موسيقاه حتى يجد فيها مَن يشبهونه ما يخصّهم، بينما أولئك "الآخرين" ممن لا يشبهونه يمكنهم تعلُّم الفهم والاستيعاب قبل إعلان الكراهية. مزيج رقيق من تجاربه، بما في ذلك فقدان الأصدقاء بسبب العنف المسلح، ومحنة مجتمعه وآخرين مثله، والأمل في شيء أكبر وأفضل.

لذا فإن "عندما يتصاعد الدخان"، الذي يبدو كألبوم من إنتاج مغنٍ-كاتب أغانٍ مَديني بامتياز، أو كما يصفه صاحبه نفسه بـ"موسيقى فولك للمدينة الداخلية"؛ يعمل في الوقت ذاته كبيان ضد الأفكار الكليشيه عن النوع الموسيقي كما عن الإسلام. تحت ضغط تمثيل صوت وجوهر جيله والمجتمعات المسلمة، الذين يتعرضون مثله للمضايقات والتمييز منذ سنوات، ليس من المستغرب أن يسمح الكندي بترك مساحة لأسماء بارزة مثل سامفا وجيمس بليك وجيمي إكس إكس في عمليته الإبداعية الحميمة. عمل البريطانيون الثلاثة على أدوات وأجهزة مختلفة، كما يغني سامفا أحياناً. عند الاستماع إلى أغنيات الألبوم الثمانية، لا يسع المرء إلا التفكير في عوالمٍ صوتية دقيقة ورقيقة تساعد الكندي على إنهاء رسم المشاهد حيث لا يصل صوته وكلماته. يأخذنا شاعر تورونتو في رحلة عبر قصص يتردد صداها في شوارع حياته. حكايات عن الفقر والتطوير والظلم والألم في سلسلة متعاقبة من الأنواع تتراوح من موسيقى الهيب هوب والكلمة المنطوقة إلى الفولك، يرويها صوته العميق والدافئ. جنباً إلى جنب المنتج فرانك دوكس (اسم يمكننا أن نجده وراء نجاحات جماهيرية لتايلور سويفت أو دريك)، الذي كان منذ سنوات بوابته إلى صناعة الموسيقى؛ يبذل جهداً مميزاً ودؤوباً في توليد رسالة تطلب الاحترام وترنو توحيد الوجوه المختلفة لبيئته المضغوطة.

غناء مصطفى يتحرك ويعيش بالتأكيد في هشاشته. ورغم أنه في بعض الأحيان، يمكن ملاحظة بعض الخَطّية في صوته، إلا أن الكلمات المتراكبة على نبرة صوته العميقة تجعلنا لا نرغب في تفويت دقيقة واحدة من الخطاب القوي الذي يخفيه ألبومه. مفارقة الألبوم وسرّ جماله تتمثّل في كونه ألبوماً خفيفاً جداً يتبدد بين يديك بسرعة الدخان نفسه، لكن رسالته لا تفقد أياً من وزنها. وحتى عندما ينحرف مصطفى فجأة عن لُطفه ورقّته في أغنية "عربة الموتى" ويظهر رغبة في الانتقام، لا يسع المستمع إلا الاستمرار في الوقوف إلى جانبه. هو ليس قديساً في النهاية. وما اختلاط الغضب بحزنه إلا جلاء إنسانية هذه الموهبة الاستثنائية.

يتزاوج شِعر مصطفى مع سيولة موسيقى البوب ​​حتى نشعر بأننا جزء من تلك الشوارع حيث آثار أقدام الهاربين المرعبة وفوهات المسدسات، التي لا تزال ساخنة ودخانها يثخن سماء المدينة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها