الأربعاء 2021/05/12

آخر تحديث: 12:49 (بيروت)

بيرام رمضان.. قبل أن يُفتح "باب السعادة" أمام العامّة

الأربعاء 2021/05/12
increase حجم الخط decrease
ترك العديد من الفنانين المستشرقين لوحات تمثل الاحتفالات بعيد الفطر، ومنهم الفنان الفرنسي جيرمان فابيوس برست الذي صوّر احتفال السلطان محمود الثاني بهذه المناسبة وسط حاشيته في "طوب قبو سراي"، أي قصر توبكابي. عنوان اللوحة "بيرام رمضان"، أي عيد الفطر، وهي زيتية من الحجم الكبير يبلغ عرضها مترين، أُنجزت في 1865، وتتميّز بالدرجة الأولى بتوثيقها التاريخي لمراسم الاحتفال المتّبعة في البلاط العثماني منذ عهد محمد الثاني.

بدأ دخول الفنانين الإيطاليين إلى البلاط العثماني في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، برعاية مباشرة من محمد الثاني. سلك بايزيد الثاني طريقاً مغايرة لطريق والده في هذا الشأن، لكن الباب ظلّ مفتوحاً أمام الرسامين القادمين من أوروبا، وكان منهم من عمل لحسابه الخاص ومن كلّفه من ذوي الشأن من الأجانب. على مدى قرون من الزمن، جذبت الأمبراطورية العثمانية عدداً هائلاً من المصورين الذين قصدوها لغايات مختلفة، فمنهم من جاء لتصوير الآثار، ومنهم من جاء باحثاً عن "الحلم الشرقي".

تحوّلت هذه الزيارات الفنية إلى تقليد راسخ ترافق مع إقبال السياح على اقتناء هذه الصور "التذكارية". إلى جانب الأعمال التي تصور آثاراً رومانية يعشقها الأوروبي، تحضر الصور التي تسجل مَشاهد تثير العين الاستشراقية، وتتميز بحرفيّتها العالية. يعمد الرسامون إلى نقل أدقّ تفاصيل العمران والمنشآت والأثاث، كما يعتنون بتصوير البشر بملابسهم المحلية في الطرق والمقاهي والبيوت. يلعب الرسم هنا دور الآلة الفوتوغرافية في التوثيق والتأريخ، وينقل صوراً حيّة لبعض الأشخاص الذين برزوا في تلك الحقبة.

تمثّل تجربة جيرمان فابيوس برست في هذا السياق، واحدة من هذه التجارب العثمانية الإستشراقية. ولد الفنان في مدينة مرسيليا، في صيف 1823، وتتلمذ على يد المعلّم اميل لوبون في هذه المدينة. نصح الأستاذ تلميذه بالتوجه إلى الشرق، وذلك بعدما أقام فترة في فلسطين، تركت في نفسه أثراً كبيراً. وفي 1855، سافر الرسام الشاب إلى تركيا، واستقرّ هناك أربع سنوات، وعاد حاملاً مجموعة كبيرة من اللوحات التي انجزها خلال تلك الرحلة الطويلة، وتابع مسيرته في موطنه، وبقي الشرق، بمناظره ومعالمه الهندسية، حاضراً في أعماله حتى رحيله في مسقط رأسه في خريف 1900.

أنجز فابيوس برست لوحة "بيرام رمضان" في 1865، بعد ست سنوات على عودته من تركيا، والأرجح أنه استعان برسوم توثيقية تعود إلى فترة إقامته في إسطنبول. تمثل اللوحة مشهداً بانورامياً يحضر في وسطه السلطان محمود الثاني جالساً على أريكة حمراء أمام باب من أبواب طوب قابي، أكبر قصور مدينة إسطنبول، ومركز إقامة سلاطين الدولة العثمانية من العام 1465 إلى 1856. أمام السلطان، نرى رجلاً ينحني ليقبّل يده بإجلال، يتبعه رجل يسير من خلفه ليؤدي الطقس نفسه، ويظهر على مسافة من هذا الرجل شخص ثالث يتقدّم كذلك بخطى ثابتة في اتجاه الحاكم.

يجري الحدث بحضور جمهور غفير ينقسم إلى مجموعتين. عن يمين السلطان، نرى حشداً من رجال الحرس الملكي، حاملين رماحهم المنتصبة بشكل موحّد نحو الأعلى، وتتقدّم هذا الحشد فرقة موسيقية تضم رجالاً يقرعون طبولهم، وآخرين يعزفون أبواقهم. عن اليسار، يحضر حشد آخر من الحرس الملكي، وتظهر من خلفهم مجموعة من الرجال تتطلّع في اتجاه السلطان. تظلّل هذه المجموعة شجرة كبيرة احتشدت عند جذعها مجموعة من الشيوخ المعممين، وتظهر خلف هذه الشجرة مجموعة من النساء المحجّبات اللواتي حضرن مع أطفالهن للمشاركة في هذه الاحتفالية.

كان "بيرام رمضان" احتفالاً دينياً، كما كان مناسبة لتمجيد الدولة والسلطنة، وكانت مراسم هذا الاحتفال تجري بحسب الشريعة التي وُضعت في عهد محمد الثاني. يتألف قصر طوب قابي من أربعة أفنية رئيسية وعدد من المباني، وكانت الاحتفالات تقام في الفناء الثاني من هذا الصرح. في أول أيام العيد، تضاء المشاعل والفوانيس، بعدها يؤدي السلطان الصلاة في مسجد القصر، ثم يتلقّى التهاني في قاعة الأمانات المقدسة، وهي القاعة التي تضم آثاراً نبوية، منها شعرات للرسول، وبردته وأشياء أخرى. بعدها، ينتقل السلطان إلى قاعة الاستقبالات الكبرى، ويتلقّى التهاني بالعيد عند الباب المسمّى "باب السعادة". وتصوّر لوحة جيرمان فابيوس برست هذه المحطة بأسلوب أكاديمي صرف، عُرف به معظم الرسامين المستشرقين في تلك الحقبة.

نقع على أعمال تشكيليّة أخرى يحضر فيها "باب السعادة"، أشهرها لوحة تحمل توقيع قسطنطين قبيدغلي، وهو فنان يوناني عمل في "الدولة العثمانية العلية" متبعاً أسلوب الرسامين الأوروبيين، وحظي برعاية السلطنة. تعود هذه اللوحة إلى العام 1789، وتمثل السلطان سليم السادس على عرش عند مدخل الباب، وسط حشد مؤلف من مجموعات عديدة تمثل كل منها طبقة من طبقات رجال الدولة ورعيّتها.

كذلك نجد في الموسوعة المعروفة باسم "صورة عامة للأمبراطورية العثمانية" لوحة طباعية تنقل صورة بانورامية أخرى للفناء الذي يشرف عليه "باب السعادة". تضمّ هذه الموسوعة سبعة أجزاء صدرت بين 1787 و1824، وقد أعدّها أغناطيوس مرادجيا دي أوسون، وهو أرمني من مواليد القسطنطينية عمل في سفارة السويد، ثم شغل مناصب رفيعة فيها، ولمع في السلك الديبلوماسي، فسمّي وزيراً مفوضاً.

تحوّل "طوب قبو سراي" إلى متحف في عهد الجمهورية، وزاره الأديب المصري عبد الوهاب عزّام وكتب في وصفه: "دخلنا قبيل الظهر فإذا فناء مربع فيه بستان، وحوله حجرات ذات قباب أمامها أروقة. دخلنا حجرة فيها طائفة من المصاحف والكتب العربية والفارسية والتركية، فيها بدائع الفنون: الكتابة والتذهيب والتحلية والتجليد، وبين المصاحف مصاحف كوفية قديمة، منها قطعة يقال إن كاتبها عمر رضي الله عنه، ومصحف كتبه عثمان، في زعم الزاعم. قلبنا البصر الحائر بين مئة مصحف أو أكثر، كلها من بدائع الآثار، ورأينا في هذه الحجرة منشورات فرمانات كثيرة افتنّ الكاتبون في خطها ورسم طُغرائها على أشكال مختلفة عجيبة، منها منشورات للسلطان سليمان، ولعثمان الثالث ومحمود، ورأينا في الحجرة دُويا ومقلمات، منها دواة للوزير أسعد مخلص باشا، أحد الوزراء في عهد محمود الثاني وعبد المجيد، وكان عالماً شاعراً. ورأينا في حجرة أخرى، يقال إنها كانت مطعم الطلاب، سجاجيد قديمة فيها متعة ومشغلة لعشاق السجاجيد. وفي حجرة ثالثة كثير من مخلفات السلاطين: في وسطها صندوق من الزجاج فيه أوعية زجاجية في أحدها شعرات للرسول صلوات الله عليه ملفوفة على ماسة، وعلى الجدار صورة السلطان محمود".

حافظ قصر السلطنة على معالمه في زمننا، وبات "باب السعادة" مفتوحاً أمام العامة، وهو أشبه بردهة يحدها عمودان يعلوهما سقف مزخرف. فوق الباب الكبير، تحضر البسملة التقليدية، وعند طرفيها تحضر الطغراء العثمانية المذهبة، وهي الشارة السلطانية التي برزت كرمز بحت لهذه الدولة، من بداياتها حتى نهاية تاريخها الطويل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها