الجمعة 2021/04/09

آخر تحديث: 09:51 (بيروت)

السرد السعودي يتمرّد ناشدًا الحرية

الجمعة 2021/04/09
السرد السعودي يتمرّد ناشدًا الحرية
\السنونة ومجموعته القصصية
increase حجم الخط decrease
يقاس نضج الكتابة الجديدة، في القصة والرواية والشعر والمسرح على السواء، بانفتاحها المباشر على حركة الحياة من حولها، ونهلها الملموس من انعكاسات الواقع المعيش بكل تمثلاته الراهنة، وانغماسها الواعي في مكابدات الإنسان الفردية وقضايا المجتمع المصيرية، وذلك إلى جانب ثقلها المعرفي وحمولتها الثقافية والفكرية، واستيعابها سبل المعالجة الجمالية المبتكرة، وأبجديات التعبير المتطورة، كغاية محورية للتعاطي مع سائر الموضوعات من وجهة أدبية ومداخل فنية بطبيعة الحال.

في هذا الفضاء من المواصفات والأطر العامة، يتحرك السرد السعودي المعاصر، لدى أحدث أجيال الكتابة في القصة والرواية بالمملكة. وتتجلى في عدد من المجموعات القصصية الصادرة حديثًا للكتّاب الشباب على وجه التحديد تفصيلات مشتركة، كتابية واجتماعية في آنٍ، يمكن احتسابها بشكل ما مؤشرات إلى خصوصية هذا السرد، الذي ينشد التمرد والانفلات وكسر القيود ومشاكسة الأوضاع الراكدة السائدة، عن طريق إحداث صيحة زاعقة، تتجاوز مجال الأدب إلى سائر الميادين الأخرى، حتى التي لم تكن لتسمح من قبل بصوت الرفض والاحتجاج، خصوصًا ما يتصل بالموروث الديني، والسياسة، والمتجذرات الشعبية، وحقوق الإنسان، ومفاهيم الحرية والعدالة والمواطنة واحترام الآخر المختلف، وما إلى ذلك.

وبداية، فإن هذه المسارات الشائكة، وغيرها، التي يسلكها عدد غير هيّن من الكتّاب الجدد في المملكة، والتي وجدت فرصة مواتية في التحقق والذيوع بفضل ثورة الإنترنت والبث الإلكتروني وسهولة التواصل مع القرّاء ومع دور النشر العربية في الوقت ذاته، وقد جرى تقديم أعمال كثيرة من هذه الإرهاصات المبكرة ليس بوصفها قصصًا وروايات فقط، وإنما كمظاهرات مدوّية أو حركات للمعارضة أو خلايا للمقاومة، أو كمانفستو مركزي للتمرد والتحرر والاحتجاج وتحطيم التابوهات، ما وصل بأغلبية هذه الأعمال السابقة إلى أن تكون مرايا عاكسة لحراك اجتماعيّ وسياسي وديني في الأساس، قبل الحديث التخصصي المفصل عن موقعها على خريطة الأدب العربي. وتتسع القائمة لأسماء كثيرة فرضت حضورها، سواء بالكتابة العميقة الرصينة، كما لدى عبد الرحمن منيف وغازي القصيبي ورجاء عالم وبدرية البشر وعبده خال ويوسف المحيميد وغيرهم، أو حتى بالكتابة المثيرة حدّ الفضائحية بسبب خوضها في أمور محظورة، كما في "بنات الرياض" لرجاء الصانع، و"نساء المنكر" لسمر المقرن، وغيرها من روايات الفرقعات والبست سيلرز.

ويمكن التمثيل للكتابة القصصية الحديثة في السعودية بمجموعتين صدرتا مؤخرًا عن مؤسسة "الانتشار العربي"، هما: "سوابيط مظلمة" لموسى الثنيان، و"ثرثرة خلف المحراب" لحسين السنونة، وفيهما تثار تلك التساؤلات ذاتها التي أثيرت حول كتابات السابقين، من حيث اتكاء الأدب على أدبياته في المقام الأول من أجل التحقق والتأثير، أم اعتماده على عناصر أخرى (القضايا الجريئة والساخنة)، أم موازنته الرزينة بين الجماليات المجردة، والمحتوى المطروح من نقد لوضعيات اجتماعية وسياسية كائنة، ومورثات مفروضة، وخطاب ديني سائد، وما إلى ذلك؟
وبالتأني في قراءة المجموعتين، يمكن الوصول إلى إجابة تقترب من أن تكون قاطعة، هي أن مثل هذا السرد السعودي الجديد قد بات يمتلك من الحنكة ما يجعله يتشبث بأن يكون أدبًا جادًّا وحقيقيًّا يعنى بأدواته ومهاراته ومفرداته الفنية والخطابية الخاصة قبل أي شيء، لكنه يحتفظ بحقه في ترصّد انشغالات الذات والآخرين في المجتمع السعودي، إيمانًا بالنزعة المحلية التي لا تحول دون إنسانية الأدب، وتأكيدًا على خصوصية المشهد السعودي كمعترك لا يزال مفتوحًا بقوة على قضايا الحريات وحقوق الإنسان وسجناء الرأي وملف الأوضاع النسوية المتدنية وغيرها من عناوين عريضة جديرة بالمناقشة والتحليل، تحت مظلة إبداعية خالصة.

في هذا الإطار، دار "اشتغال" موسى الثنيان، وحسين السنونة، أعمالهما المدروسة، إذا جاز التعبير، وتطعيمها بهذه المعطيات كلها، بدون الافتقاد إلى عفوية التدفق وتلقائية الاندياح وبراءة التخييل وخصوبة التعامل مع الملابسات المتشابكة والتفاصيل المرهفة في حركة الحياة، التي يجري التقاطها بحساسية شعرية في بعض الأحيان. وهنا تكمن المعادلة الصعبة، بتضفير الفانتازيا وأجواء السحرية وغير المعقول، مع الوعي الصارم وهندسة البناء المحكم، في سياق واحد.

في مجموعته، يتفاعل موسى الثنيان مع سلسلة من القضايا والأزمات الكبرى، منطلقًا من جزئيات دقيقة وثنايا خفية تقتنصها عيون المخيلة الأدبية الشفيفة. من ذلك، على سبيل المثال، تماهي الذات مع الطيور بأنواعها المختلفة التي تحفل بها المجموعة. وتشترك هذه الطيور، على اختلافها، مع بعضها البعض، ومع الإنسان، في اعتناق مبادئ الحرية، والاستعداد للموت و"الذبح" من أجل التحليق والطيران والفكاك من الأسر. 

كما قد تشارك هذه الطيور البشر في الإقامة الجبرية المؤقتة "دون ذنب" داخل أسوار السجون، التي يقتحمها الكاتب برشاقة وبساطة، لينقل صورًا مظلمة من داخلها، بسواد عنوان مجموعته المشحونة بالمرارة والحزن النبيل على مجتمع حرر العبيد منذ ستين عامًا، بإلغاء العبودية والرق رسميًّا في السعودية عام 1962، لكنه تحرير "ورقي"، ينقصه الكثير في الواقع، لإنجاز العدالة والمساواة، ليس فقط في الحقوق، وإنما كذلك في المشاعر المتبادلة، والعلاقات العاطفية بين الشبّان والفتيات، التي لا تزال تخضع للعنصرية ولون البشرة.


وينفذ الثنيان كذلك بالروح الشعرية الهامسة إلى أحاسيس "خيال المآتة" (فزّاعة الطيور)، مستشعرًا حال الإنسان حين يُجرّد من كل شيء عدا هيكله، فيغدو تمثالًا باردًا ميتًا، يتشكك الحاضر في وجوده، ويتشكك هو في إمكانية مجيء المستقبل، ويسرح هو بدوره في حديث مطوّل، وفلسفة عميقة، حول معنى الحرية، وكيف تكون، شأنه شأن "عصفور الساعة" المعدني، الذي يخرج من محبسه في توقيتات محددة، قد تكون كافية لأن تهب السعادة للأطفال وهم يراقبونه يصيح، قبل أن يتوارى من جديد، وفق قوانين مصيره المرسوم.


وبالمثل، يتطرق حسين السنونة في مجموعته إلى الكثير من لوازم هذه "الثرثرة" (الفيوضات الكلامية الصارخة بغير حساب) التي ينثرها بطلاقة "خلف المحراب"، معرّجًا على سلبيات جوهرية تهدد مجتمعه، من قبيل سوء استخدام ذلك المحراب نفسه، كمنبر للتشدد والقهر والتسلط الديني وفتاوى المتزمتين الذين يجري تعيينهم أوصياء على البشر ووسطاء بين الإنسان والإله بدون وجه حق.


ومن انتقاد السلطة الدينية، يمضي السنونة إلى الاحتجاج على هيمنة سائر السلطات، الرسمية وغير الرسمية في الواقع المحيط به من كل جانب، كسلطة العادات والتقاليد والموروثات الثقافية والاجتماعية، التي يجري تناقلها وتداولها عبر الأجيال بدون تمحيص ومراجعة. 
كما يتماهى السنونة مع أحد السجناء في ثرثرته، وصولًا في الختام إلى أن حرية الكاتب ليست فقط في أن يكتب ما يشاء، وإنما في أن يحيا، هو وغيره، مثلما أراد لهم الخالق، قبل أن تتحجر الأرض، ويتوقف المطر، وتخشى النساء التحرك في الشوارع، وتصير الدعوة إلى الاستنارة خروجًا على الدين والأخلاق والنواميس الموضوعة لخدمة المتجبرين والانتهازيين والمنتفعين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها