نلتقي أميمة، ابنة العشر سنوات، مرتدية فستاناً وردياً فضفاضاً، وتنظر بلا مبالاة إلى الكاميرا أثناء وزنها. تزن أميمة 12 كيلوغراماً. ذراعها رقيقة ونحيفة مثل تلك الحقنة التي من المفترض أن تبقيها على قيد الحياة. في مشهد آخر، نرى طفلاً هزيلاً يتم إنعاشه، فيما تُسمع صرخات الجدة في الخلفية، حين يتضح فوات أوان إنقاذ حفيدها. بدافع الصدمة والخسارة، تتهم الجدّة الطبيبةَ: "الحليب فَسَد. لم تستخدمي المضخة بشكل صحيح".
هذه لحظات معاناة يشعر بها المتفرّج بشكل مباشر، تُلقى في وجهه بلا استئذان، ولا تغادره. لحظات لا يمكن الهروب منها. في الوقت نفسه، يتولّد لدى المتفرّج شعور بأن الأشخاص أمام الكاميرا (من المندوبين والمفجوعين والمكلومين) يريدون منّا أن نرى معاناتهم، وأن نجعل العالم يعرف ما يجري في اليمن. محاولة يائسة ربما، لكن هل هناك أي بديل آخر؟ يلامس الفيلم شخصياته/أبطاله/موضوعاته، ويخلق لحظات مربكة من الصمت في المقابلات، ويزوّم صوره لالتقاط وجوه يائسة وعاجزة.
بالإضافة إلى المشاهد في المستشفى، نرى لقطات ثابتة طويلة، تظهر الدمار الذي لحق بالبلد: مبان مهجورة بالكامل، جدران مغطاة بثقوب الرصاص، مدرسة قديمة كُدّست مقاعدها المُتربة في الزاوية. تفكّك اجتماعي وإمكانات معطّلة وخسائر متراكمة جلبتها الحرب للبلد الذي كان سعيداً. "لقد دُمّر كل شيء، الركائز الأساسية لمجتمعنا: التعليم والمياه والصحة. هناك العديد من العائلات بلا آباء، بلا أمهات"، تقول الممرضة مكّية مهدي.
إن بدا ما سبق جرعةً زائدة من البؤس السينمائي، فهذا استنتاج مغلوط في أفضل الأحوال. "عنبر الجوع" فيلم للتفكُّر ولا ينشد التباكي بقدر التحفيز وإثارة القلق والغضب الفاعلين. ما تواجهه عايدة الصديق ومكّية مهدي يومياً يتجاوز الإرهاق والإحباط، في سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه بأدوات بسيطة وغائبة في أغلب الأحيان، فيما يستمر الصراع الدموي لرفد الكوارث الراهنة بحمولات زائدة. في الفيلم، لا يمكنك رؤية الحرب نفسها، لكنها كامنة فيه مثل ظلّ مرعب يطول كل شيء. المؤسف أن لا نهاية تلوح في الأفق لهذه الكارثة، لذا فالأمل ضئيل والنجاة أشبه بالمعجزة. حتى المساعدة التي تصل إلى الأطفال من العالم الخارجي لا تقلل دائماً من معاناتهم. يعاني الأطفال الآن حساسية من الغلوتين الذي يأتي من دقيق القمح في شحنات المساعدات. في أحد المشاهد، نرى أميمة تصبّ بعض الماء في غطاء لطفل يصغرها. للحظة، فقط، نشاهدها وهي تتصرّف كطفلة في مثل عمرها.
بشكل عام، يتجاهل الفيلم الجبهات السياسية، فهو غير معني بالتجاذبات والانحياز لطرف على حساب آخر. لأنه في الأخير، كما في أي حرب، لا يوجد سوى خاسرين، بغض النظر عن الجانب الذي أنت فيه. مع ذلك، في نهايته، يتخذ الفيلم موقفاً، مشيراً في التترات الختامية إلى المملكة العربية السعودية، قائدة التحالف والمسؤولة الأكبر عن قصف اليمن، ودعم الولايات المتحدة لها لفترة طويلة. حقيقة أن الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن أوقف هذا الدعم حالياً ويريد إنهاء الحرب، هي تطورات جديدة لا يعكسها الفيلم بحكم توقيت إنجازه. لكن في الوقت نفسه، الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في مؤتمر المانحين التابع للأمم المتحدة لليمن في فبراير/شباط الماضي (والذي، كما الحال في مؤتمر مانحي سوريا مؤخراً، جمع أقل من نصف المبلغ المطلوب)، أعلن أن الوضع الإنساني في البلاد "صار أسوأ من أي وقت مضى".
كدعوة إلى العمل وصرخة للإنقاذ، يصبح الفيلم أكثر أهمية من أي وقت مضى. لكن في ظلّ المناخ القاتم وتصلُّب مواقف طرفي النزاع، يصعب التعويل كثيراً على ما يمكن أن يفعله فيلم وثائقي قصير في تصحيح مسار بلد انحرف عن جادة صوابه وصار ساحة صراعات وتصفية حسابات إقليمية.
(*) رُشّح الفيلم لجائزة الأوسكار في فئة "أفضل فيلم وثائقي قصير".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها