الإثنين 2021/03/08

آخر تحديث: 12:06 (بيروت)

سعيد حورانية.. الرائد الثالث للقصة السورية

الإثنين 2021/03/08
سعيد حورانية.. الرائد الثالث للقصة السورية
increase حجم الخط decrease
لا يستقيم تاريخ القصة القصيرة في سوريا إلا إذا نظرنا إليه من خلال ثلاثة وجوه تشكل قاطرة الريادة: زكريا تامر، عبد السلام العجيلي، سعيد حورانية. وفي حين أخذ تامر والعجيلي حقهما من الأضواء والشهرة، فإن حورانية لم ينل ذلك، وهناك من بين النقاد والدراسين مَن يفسر الإهمال الذي تعرض له حورانية بسبب توقف انتاجه عند مرحلة تبدو بعيدة، في حين واصل تامر والعجيلي. وهناك سببان اضافيان يتعلقان بمساره السياسي، وفترة الإقامة في الاتحاد السوفياتي السابق، ومن ثم رحيله المبكر عن سن لم يتجاوز 65 عاماً. ونظراً لمواقفه السياسية المعارضة، عاش حورانية من منذ نهاية ستينيات القرن الماضي حتى منتصف السبعينيات في موسكو، لكنه قبل ذلك شهد على التحولات التي عرفتها سوريا في فترة ما بعد الاستقلال مباشرة، وشكلت ولادته في حي الميدان الدمشقي، وتنقلاته وحياته في محافظات سوريا البعيدة، حيث مارس التعليم في السويداء ودير الزور والحسكة، مادة خام أساسية لأجمل القصص التي ضمتها مجموعاته، وكذلك أعماله المسرحية.

كتب حورانية أربع مجموعات قصصية (وفي الناس المسرة، ثلج على العالم، شتاء قاس آخر، سنتان وتحترق الغابة). ويحلو للنقاد الذي قرأوا نتاج هذا الكاتب أن يشبهوه بالكاتب الروسي الشهير نيكولاي غوغول، الذي قال ديستوفسكي عنه "كلنا خرجنا من معطف غوغول"، ووجه المقارنة هنا هو الريادة، لأن "المعطف" عنوان قصة لغوغول أثّرت في أجيال من الكتّاب الروس، وامتد تأثيرها إلى خارج روسيا، ورغم مرور أكثر من قرن ونصف القرن على رحيله فهو ما زال حاضراً ككاتب قصة استثنائي. ويمكن اعتبار تشبيه حورانية بغوغول، بلا سند، وهو في غير مكانه نظراً للتأثير المحدود الذي تركه حورانية، بالقياس إلى زكريا تامر، في أجيال من كتّاب القصة القصيرة في العالم العربي. ومع ذلك هناك قرابة خاصة بين حورانية وغوغول، وهذا ينطبق على زكريا تامر أيضاً، وتتجلى تلك القرابة في التكثيف العالي في النص القصصي الذي يختصر عوالم واسعة في صفحات قليلة، والعناية باللغة، والجرأة في ارتياد آفاق لم يذهب إليها أحد من قبل، من أجل كتابة قصة قصيرة ذات سوية فنية وفكرية جيدة.

حين قرأت مجموعة "شتاء قاس آخر" في منتصف السبعينيات كان سعيد حورانية قد عاد لتوه من موسكو، وبدأ يعمل في وزارة الثقافة السورية بدمشق، وهناك تعرفت عليه في بيت الشاعر بندر عبد الحميد، بحضور العائد من موسكو أيضاً المخرج المسرحي فواز الساجر، والذي كان عمله المسرحي مع المسرح الجامعي "رسول من قرية تاميرا" حديث الأوساط، وشكل حدثاً تأسيسياً في الحياة المسرحية السورية، وبداية لولادة جيل مسرحي سوري جديد، وسيدفع نحو تأسيس معهد الفنون المسرحية الذي لعب الدور الرئيسي في ولادة دراما سوريا جديدة. ويمتاز حورانيه بأنه دمشقي عتيق، لكنه غير تقليدي وكونه ابن البيئة الدمشقية المحلية، لم يمنعه من دخول العمل السياسي الشيوعي غير الحزبي، ويقول حورانية في أحد أحاديثه: "ربما كنت واحداً من أكثر القصاصين السوريين كتابة عن حيّه وبيته، فقد كتبت مجموعتي الأولى (وفي الناس المسرة) عن علاقتي مع عائلتي بالذات.. عن ثورتي عليها.. وأول اهتدائي للأفكار المخالفة لأفكارها وصراعي معها، والصراع بين العاطفة العائلية في مجتمع متخلف. المجموعة الأولى تعكس بالضبط تلك الأجواء العائلية الاجتماعية التي اصطدمت بها، فصوّرتُ صراعي معها، صراع رجل مع مفاهيم لم نؤمن بها، وخروجه من عائلته، وكان هذا في ذلك الوقت شيئاً ثورياً. ثم إنني كنت أجهر بآرائي بين شباب حيي مما أثار المشايخ"، وهو يتحدث هنا عن النقلة الكبيرة التي حصلت في حياته من شاب مؤمن قريب من الأخوان المسلمين باتجاه الحزب الشيوعي بزعامة خالد بكداش.


وكانت له تجربته السياسية كشاب من شباب العاصمة وطالب جامعي، فهو من جيل ولد في ظل الانتداب الفرنسي (1929) في فترة تنافس على الساحة بين الإخوان المسلمين والحزب الشيوعي الذي كان مختبراً للأفكار التقدمية، وساحة سياسية مفتوحة في سوريا الكبرى، وقد قاده نضاله السياسي إلى السجن مرات عديدة. ومن هنا فإن كتابة القصة لدى حورانية تستمد مادتها من واقع مُعاش، ولذلك صنفه النقاد، حسب مقاييس تلك الفترة، بأنه كاتب واقعي اشتراكي، وسواء صدق هذا الوصف أم لا، فإنه ابن البيئة المحلية، كتب ما شاهد وعايش، وتشهد على ذلك مجموعة "شتاء قاس آخر" التي يدور بعض قصصها في منطقة الحسكة التي درّس فيها وأمضى قسطاً من خدمة العلم في نهاية الخمسينيات، أي بعد الاستقلال بقليل. وتركز القصص على الفساد الذي كان مستشرياً في الجهاز الحكومي، واستغلال ونهب أهالي المنطقة الذين كانوا يعيشون حالة فقر مدقع وظروف حياتية صعبة ومعقدة، وتفضح تلك المجموعة نظام الاستغلال الذي شهده الريف السوري عامة حتى وقتنا هذا، وخص الجزيرة السورية أكثر من غيرها كونها تشكل المصدر الأساسي لموارد الخزانة السورية من قمح وقطن قبل اكتشاف النفط، ويبرز في كل هذا رجالات السلطة التابعين لوزارة الداخلية التي تشكل السلطة المباشرة للقمع واستباحة الريف من قبل السلطة وسماسرة المدينة. ويتحدث حورانية للقارئ عن هذه النصوص "هذه القصص جزء من عمري، ومن عمر وطني سورية، كنت أحب لها أن تصل إلى يدك… منذ زمن طويل، ولكن الظروف البائسة التي عاشها الوطن، سنوات عجاف مظلمة، والتي طحنتنا رحاها، فلم تزدنا التجربة إلا إيماناً بشعبنا العظيم، لم تتح لها أن تظهر".

وكان حورانية أكبر من كاتب قصة قصيرة ومسرح (صياح الديكة، والمهجع رقم 6) ومترجم من الروسية (ترجم كامل أعمال تشيخوف)، هو من طينة المعلمين الذين يشكلون مرجعية في الثقافة والسياسة، وكان يمارس هذا الدور في محيطه، ويجد من يستمع له، وقام بمحاولة من أجل خلق جو ثقافي صحي في وقت كان النظام قد بدأ يضع يده على الحياة الثقافية، لكن محاولته باءت بالفشل لأن القطاع الثقافي في سوريا محتكر من قبل السلطة فلا صحف أو دور نشر مستقلة. لكن يمكن أن نسجل لحورانية أنه لعب دوراً في تنشيط الجو الثقافي العام من خلال الانفتاح على الترجمات والمسرح الجديد، لكن هناك من يأخذ عليه تحزبه لتيار سياسي تحالف مع السلطة هو تيار بكداش.

ورغم تصنيف حورانية بأنه كاتب واقعي ومع أن مادته من الواقع، وتسعى للوصول إلى قطاعات شعبية، بما يناسب توجهات مرحلة الخمسينات، حيث سادت مقولة الأدب للشعب، فإن أسلوب حورانية حافظ على درجة عالية من احترام شروط الكتابة، وله موقف حاد من الواقعية الاشتراكية "لم يكن يوجد شيء من هذا القبيل. نحن الذين نظّرنا بعد ذلك وتكلمنا عما يسمى بالواقعية الاشتراكية وخبصنا فيها تخبيصا أكثر من تخبيص السوفييت أنفسهم في وقت كان فيه كثير مما حولنا معاديا من صحف ومجلات وإذاعة.. لكنه يحترم الموهبة..". الموهبة بالنسبة لحورانية كانت هي الأساس، وعلى هذا فتحت لهم الجرائد والمجلات صفحاتها لأنهم قد أصبح لهم قراء يطالبون بهم، والفضل يعود إلى بعض الليبراليين في تلك الفترة مثل سعيد الجزائري الذي فتح باب مجلة النقاد أمام الموهوبين.

ولم ينصف حوراني أحد كما القاص والناقد محمد كامل الخطيب الذي كتب مقدمة أعماله الكاملة، والتي صدرت العام 2005، وتعد مقدمة نقدية وافية تلقي إضاءات على عوالم هذا الكاتب وتقاطعاته مع كتاب آخرين من زمنه وبلده ومن أزمنة وبلدان أخرى. ومما جاء في المقدمة: "سعيد حورانية وزكريا تامر شكَّلا، بالنسبة لجيلي، الأستاذين اللذين كانا علينا أن نكتب القصة وطيفهما حائم فوق مخيلتنا وأقلامنا، فإما أن نفعل شيئًا يليق بالأستاذين، أو أن لا نكتب".

نعم إلى هذا الحد كانت النظرة إلى حورانية وتامر والعجيلي من الأجيال التي جاءت لاحقاً، والتي لم تقدم منجزاً يتجاوز ما جاء به الرواد الذين لا يقف فضلهم عند القطيعة الفنية مع الجيل القديم، وإنما ذهبوا نحو القطيعة السياسية، والرد على النكبة واحتلال فلسطين العام 1948، وقيام دولة اسرائيل. لكنها، في الوقت ذاته، كانت بداية مرحلة الاستقلال والأمل في بناء ديموقراطية لم يتأخر العسكر حتى غدروا بها.

وتبقى الإشارة ضرورية إلى ملاحظات عديدة. الأولى أن ما تركه سعيد حورانية قليل كنتاج ومتقطع، وهناك فجوات في حياته لم يكتب خلالها، ومن ذلك الفترة التي قضاها في موسكو، وهي طويلة، حوالى خمسة أعوام، ولم يرجع لكتابة القصة بعد عودته إلى سوريا حتى وفاته، واقتصر نتاجه على بعض المقالات صحافية. وقال في حوار طويل أجراه معه الكاتبان محمود عبد الواحد وحسن م يوسف، العام 1988، أنه خلال اعتقاله في لبنان خلال فترة الوحدة "رجال الشرطة، عندما اقتحموا غرفتي في «الفرير» أخذوا منها 52 قصة قصيرة ورواية «بنادق تحت القش»، وأن الحكم قد صدر بإتلافها أيضاً، وقد أحرقت جميعها، وكان هذا أفظع شيء حدث في حياتي على الإطلاق، تصوروا أن شرطياً صغيراً يمكنه أن يمحو لك جهد سنوات". والملاحظة الثانية هي الهجوم العنيف الذي يشنه حورانيه على زكريا تامر الذي يعترف بموهبته الكبيرة، وتأثيره في أجيال من كتّاب القصيرة، لكن يتحامل عليه من دون أن يقدم محاججة مقنعة. ومن خلال قراءة الحوار مع حورانية، يبدو واضحاً مدى تعصبه الفكري وانحياز أحكامه سياسياً إلى تيار ماركسي تجاوزته الأحداث منذ زمن طويل، وهذا ما يفسر عدم استيعابه تأثر جيل القصة القصيرة الجديد، بزكريا تامر، الذي فصل بين الكتابة والسياسة. ويقول: "إن اللغة التي كتب بها زكريا قد أبدت تأثيراً إيجابياً في لغة القصة وأغنتها. واكتست بمزيد من الصور، وبدأ الاندغام بين الصورة وما تمثله في الحياة الواقعية يكتسب عناية أكبر. لكنها تركت أثراً سلبياً أيضاً، فقد فهم عديد من الكتّاب الذين ساروا على خطا زكريا، أن القصة هي تحديداً اللعبة اللفظية الجملية الغنائية، واعتبروا أنه ينبغي أن تكتب قصة من 10 أسطر وفي كل سطر 14 صورة، وكل صورة متداخلة مجانية، مجانية، ولا علاقة لها بالحدث".

والملاحظة الثالثة هي، ان القصة القصيرة عرفت صعوداً كبيراً في الخمسينيات، وظهر كتّاب كبار مثل زكريا تامر والعجيلي، لكنها تراجعت لاحقاً، ولا يوجد اليوم في الساحة كتّاب يمكن الاعتداد بنتاجهم، وقد لعب التوجه نحو الرواية دوراً في ذلك، لكن هناك أسباباً أخرى تتعلق بالبيئة الأدبية والسياسية التي تم تجفيفها كلياً خلال فترة حكم الأسدين الأب والابن.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها