السبت 2021/02/27

آخر تحديث: 13:01 (بيروت)

"امرأة شابّة واعدة".. اغتصاب، عنف، وأشياء أخرى مفيدة

السبت 2021/02/27
increase حجم الخط decrease
هناك أمران يستدعيهما المرء أثناء مشاهدته فيلم "امرأة شابّة واعدة" (*): قضية اغتصاب فتاة فيرمونت، ولوحة قديمة للرسامة الإيطالية أرتميثيا جِنتليتشي. قضية الفيرمونت حديثة وما تزال مفاعيلها جارية، وهي واقعة اغتصاب جماعي تعود إلى نيسان/أبريل 2014، تعرَّضت لها شابة مصرية من قِبل عدد من الشباب من أبناء كبار الأثرياء والمشاهير تناوبوا على اغتصابها وكتابة أحرف أسمائهم الأولى على جسدها وتصويرها بعد تخديرها في فندق فيرمونت في وسط القاهرة. أما اللوحة فتعود إلى العام 1610، وفيها تصوِّر الفنانة أرتميثيا جِنتليتشي قصةً توراتية بطلتها شابة من بني إسرائيل، اسمها جوديث (أو يهوديت)، قطعت، بمساعدة خادمتها عبرا، رأس مُغتصبها، الجنرال الآشوري هولوفيرنوس.


في الفيلم، الذي تجترح به الممثلة والكاتبة البريطانية، إميرالد فَنيل، مساراً إخراجياً يعد بالكثير، هناك انتقام نسائي في/ومن عالم خطير تهيمن عليه قسوة الرجال، حكاية عنف مضاد بلا أمل، ديون قديمة لا تسقط بمرور الزمن، وآثام يرغد مرتكبوها في نعيم الحياة العملية الناجحة، فيما يكافح الضحايا مع ندوبهم المفتوحة والخسارة الشخصية والإنكار المجتمعي. حكاية الفيلم تجسر مسافة شاسعة، زمنياً وجغرافياً، لتربط بين مشاغل جيل شاب ساخط وناقم على العالم، وآخر بعيد وضارب في القِدَم لم يجد سوى العنف حلّاً ناجعاً ونهائياً لآلامه.

 


في المشاهد الافتتاحية من الفيلم، تجلس شابة ثملة بمفردها في ملهى ليلي، غافلة على ما يبدو عن انتباه ثلاثة رجال إلى وضعها المزري. لا يعرفون عنها شيئاً سوى أنها ثملة وضعيفة، ومن الواضح أن اثنين منهم يريانها صيداً سهلاً، وبينما تنتقل محادثتهم من التكهنات المازحة إلى نوايا أكثر قتامة وقذارة، يتدخل الرجل الثالث كما يليق بـ"جنتلمان" حقيقي. يتحقق من الشابة لمعرفة ما إذا كانت على ما يرام، ويحاول تنظيم طريقة آمنة لها للعودة إلى المنزل. لكن هاتفها مفقود ولسانها ثقيل، لذلك يتخذ قراراً؛ سيغادر هو أيضاً حالاً، ويوصلها في طريقه.

في التاكسي، يستحيل الرجل الشهم نسخة مغايرة أقل احتراماً. يحدّق فيها أكثر من اللازم، ونظراته غير مريحة. أو ربما، في أعماقه، وبطريقة غير معروفة حتى بالنسبة إليه، كانت هذه هي نيّته طوال الوقت. أياً يكن، فبدلاً من توصيلها، يأمر السائق بأخذهما إلى منزله. وفيما يناور الشابة المرتبكة وشبه فاقدة الوعي ويُسكت احتجاجاتها الغامضة ليصل بها إلى سريره، تتحرَّك الكاميرا فوق رأسها لتظهرها بذراعين ممدودتين مثل يسوع على الصليب، ثم فجأة تجلس الشابة منتصبة، وبصوت واضح وواثق تسأل الرجل عما يفعله. تقلب الطاولة على مغتصبها المحتمل.

الشابة، كاساندرا (كاري موليغان)، هي طالبة متميزة سابقة في كلية الطب، تركت الدراسة، كما يخبرنا الفيلم ببطء، وخرجت حياتها عن مسارها بعد اغتصاب صديقة طفولتها، نينا، على أيدي مجموعة من زملائها في أحد الفنادق أثناء حفلة جامعية. كانت ثملة، وتناوبوا على اغتصابها، وصوّروها، وتناقلوا الصور ومقاطع الفيديو، ثم عند لجوئها للقضاء لاسترداد حقّها؛ لم تجد من يقف في صفّها، لا من زميلاتها ولا أساتذتها. لماذا؟ لأنها كانت "فتاة سهلة"، تشرب كثيراً ولديها علاقات عاطفية متعددة. مغتصبها ينال البراءة، وتستمر حياته، وادعة وآمنة، حتى يصبح طبيباً مشهوراً، والزميلة التي شهدت ضد زميلتها المغتصبة صارت طبيبة وتعيش حياة مستقرة، والأستاذة الجامعية صارت عميدة كلية الطب. أما الضحية، نينا، فانتحرت. تقضي كاساندرا الآن أيامها في العمل في مقهى صغير، وفي السهرة تلتقط "زبائنها" في حانات صغيرة، متظاهرة بالسُكْر، من أجل إغراء ومحاصرة هذا النوع من الرجال الذين يستغلون نساء "مكسورات الجناح" غير قادرات على الرفض.

"امرأة شابّة واعدة" فيلم لديه أشياء ثقيلة وكبيرة ليقولها عن ثقافة الاغتصاب والنظام الأبوي والتواطؤ المجتمعي، فيما يحافظ في الوقت نفسه على كونه قصة مُسلّية ومضحكة. مزيجٌ دقيق من أنواع فيلمية مختلفة، والأهم أنه لا يركب أي موجات نسوية رائجة أو معاصرة. فالسيناريو مكتوب قبل صعود حركة "#MeToo" واكتشاف الجرائم الجنسية للمنتج الهوليوودي هارفي واينستاين. ليس من ثانية واحدة مهدورة في الفيلم، وحقيقة كونه "فيلم مؤلف" تفسّر هذا الجانب: كل لقطة وكل أغنية وكل جُملة، تغذّي الرسائل الأكبر للفيلم، مثلما كل تضمين أو إشارة مدروسة وموضوعة في محلها. تتناقض الألوان الزاهية لحياة كاساندرا النهارية، مع عالم الليل المظلم والقاتم الذي اختارت غزوه. الصور الدينية مبعثرة في كل مكان. كاساندرا كمسيح مؤنث. كاساندرا تقف كإطار حائطي يعطيها هالة القديسين. حتى اسمها نفسها يحمل وزناً إضافياً. فكاساندرا التراجيديا الإغريقية، مثلما بطلة الفيلم، رأت العالم وعرفت الحقيقة، ومع ذلك لم يصدّقها أحد.

أبرز ما في النص الحادّ للفيلم توازنه المثير للإعجاب في مراوحته بين الكوميديا ​​السوداء والدراما النفسية والتشويق والانتقام، مع إدانة قوية للتحيّز الجنسي (ليس فقط من جانب الرجال) في المجتمع. من خلال هذا السيناريو، تثبت المخرجة تمتعها بحس فكاهي لاذع وذكي، فضلاً عن مزاج تخريبي/تدميري في رسم شخصياتها (وتسكين أدوارها أيضاً). هو ببساطة أكثر الأعمال السينمائية النسوية جذريةً في السنة الأخيرة. لا يخشى اتخاذ مقارباته إلى أقصى الحدود، وفي كل مرة يبدو أنه سينتهي به الأمر بالخضوع لقواعد الكوميديا ​​الرومانسية التقليدية، دائماً ما يجد تطوراً جديداً في الحبكة، يحافظ على نظرتها المتشائمة وغير المتهاونة مع المجتمع. يرمي سهامه بلا رحمة، ليس فقط ضد المتحرشين الجنسيين، لكن أيضاً ضد جميع الذين، بطريقة غير مباشرة، يساهمون في تعمية ومداراة السلوكيات التعسفية تجاه النساء، إما بإشاحة نظرهم للجهة الأخرى أو بمحاولة تبريرها بحجج مثيرة للتقيؤ.

هذا على الرغم مما سيعتقده بعض المشاهدين عن ذهاب الفيلم بعيداً في عرضه، أو في "تطرّف" حلوله واستنتاجاته. لكن إن كان ثمة شيء فعلته التطورات الاجتماعية والسياسية في السنوات الأخيرة (في الغرب بالطبع)، فهو دحض مسألة التزام الدقة والاعتدال كسُبُل مشروعة وفعّالة لأي نشاط يبغي التغيير وتحسين الأوضاع. سواء كان الأمر يتعلَّق بالأفعال الراديكالية لحركة احتجاجية مثل تمرُّد الانقراض أو بالرسائل الحادة والجامحة لحركات #MeToo"" و"حياة السود مهمة"، فإن استراتيجية التغيير الاجتماعي تعتمد اليوم على خطوات جريئة وبيانات متطلِّبة. سنوات التنبيه اللطيف والتنقيح الظاهري لم تؤد فعلياً إلا إلى تحسُّن طفيف أو معدوم في أوضاع الفئات المهمّشة والمهضوم حقها، ما أدّى بدوره إلى نقاط تحوُّل دراماتيكية في مجتمع اليوم شديد الاستقطاب؛ ليقرر هؤلاء المهمَّشون التخلّي عن كياستهم ولُطفهم ليعبّروا عن أحوالهم بوضوح وبصراحة، بصوت عالٍ وغير اعتذاري.

يغرس الفيلم رايته في قلب هذا المزاج وتلك النزعة الثقافية، معلناً عن نفسه بقوة لا هوادة فيها، موضحاً رسالته والغرض منها بوضوح واثق وجلاء عدواني. تقوم فَنيل بتجريد رؤيتها للعالم المعاصر إلى عناصره الأساسية، وتهذيبها حتى لا يفوّت جمهورها أي اقتراح أو فكرة. إنه فيلم خالٍ تماماً من الدِقّة، لكن ليس من الفروق الدقيقة. بل إنه فيلم نابع من فهمٍ ذكي ونابه للموضوعات التي يتناولها، لكنه لا يسعى إلى "مَكْيجة" ما لديه أو إخفاء ذكائه، وبدلاً من ذلك يرمي كل ما عنده على الشاشة ليراه الجميع. لا تريد فَنيل أن يفوّت متفرج واحد حتى النقاط/الاستنتاجات التي توضّحها، ففي النهاية، وعبر هذا الأسلوب، غير المريح وغير الاعتذاري، دون غيره، تستطيع جذب انتباه أي شخص. أو كما قالت حنة آرنت ذات مرة: "أحياناً يكون العنف هو الطريقة الوحيدة التي تُؤمّن سماع صوت الاعتدال".

(*) متاح حالياً للمشاهدة عبر منصات إلكترونية مختلفة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها