الأربعاء 2021/02/24

آخر تحديث: 11:49 (بيروت)

بلانشو في صُوره.. أو مشكلة كاتب لا يموت

الأربعاء 2021/02/24
increase حجم الخط decrease
لطالما أعجبتُ بشأن محدد من شؤون الكاتب الفرنسي موريس بلانشو، وهو كونه تمسك طوال حياته بقرار ألا يكون في أي صورة فوتوغرافية، ولا في أي شريط، وقبلهما، في أي فضاء عام. وذلك، الى درجة أنه، وعندما احتفل عدد من أصدقائه بعيد ميلاده العام 1997 في "بيت الكتاب" بباريس، لم يحضر، فظل الاحتفال به، من دونه. لقد جذبني وضع بلانشو هذا مثلما أنه زاد من أسطرتي الرومانسية له بما هو من النقاد الأدبيين النموذجيين ومن الأدباء المثاليين فرنسياً.

على اني، وقبل ايام، عدت الى "غوغلته"، فوقعت على صور كثيرة له: واحدة يحمل فيها قطاً، وواحدة يحمل فيها رأس تمثال أو تمثال رأس، وواحدة خلف مكتبه، وواحدة خلف كتاب يقرأه، وواحدة-وهذه اللقطة القاضية- يقف فيها على جدار، وينظر الى اليسار، تماماً، كما لو أنه يقدم دعاية لنظاراته الشمسية، أو أنه يأخذ وضعية من الوضعيات التصويرية. استغربتُ، ووجدت أن نهاية أسطرتي لبلانشو قد اكتملت. لكن، بالتوازي مع هذا، خطر في بالي أن نشر صوره يبدّل كتابته.

فمن المعلوم أن بلانشو كان قد رسخ علاقة الكتابة بالموت، بحيث قدم الأولى، وباختصار شديد، كما لو أنها كينونة ممارسها نحو الثاني. وهذا الترسيخ، شرحه جاك دريدا بطريقة ملفتة للغاية، إذ كان قد رأى أن كتابة بلانشو هي سبيله إلى التوقف عن الوجود من أجل قارئه، الذي لا يمكن أن يحيا من دون موته. على هذا النحو، يمكن القول إن بلانشو، وبكتابته، كان يريد أن ينمحي لكي يولد هذا القارئ. وهذا، ما يتعلق بكليشيه موت المؤلف بالتأكيد، مثلما أنه يحيل الى تأويلة لفيناسية (نسبة إلى لفيناس)، لها جذور عديدة، حول الكتابة ذاتها بما هي محاولة زوال إحالة الأنا إلى حاملها، وانقلابها إلى "هو"، أو انقلابها، وبحسب تأويلة دولوزية (جيل دولوز)، ولها جذورها هي الأخرى أيضاً، إلى ضمير مجهول.

ما يهم هنا أن علاقة كتابة بلانشو بالموت يبرزها، مثلما يواصلها ابتعاده عن ظهوره في صور فوتوغرافية أو في سواها. إذ أنه كان يحرص على هذا الإبتعاد كشكل من أشكال موته، أو بالأحرى كأحد سُبُله اليه. على طريقة دريدا، من خلال هذا الإبتعاد، استمر في كتابته كتوقف عن وجوده أو كتعليق له على غيابه لكي يضمن ولادة قارئه، ولكي يضمن تكاثره.

على هذا النحو، يحمل نشر صور بلانشو إلى تغير في كل معادلة كتابته. وهذا التغير يمكن قراءته من داخل هذه المعادلة: زوال ابتعاده عن الصور يعني زوال انمحائه، وبالتالي، انتهاء ولادة القارئ. بالطبع، التغير في هذه الجهة له مردّ أساس، وهو رحيل بلانشو عن دنيانا، بحيث أنه ما عاد يكتب، وما عاد يعلق وجوده، وبالتالي، ما عاد يولد قارئه. وبهذه الطريقة، يختم كل كتابته ومسارها بصُوره، التي تبدو انها تسترجع له "فضاءه" من قارئه بعدما تركه "يسرح ويمرح" فيه. في النتيجة، بلانشو، وبصوره، ينهي كتابته. وهذا، ما يُرجع مرة أخرى إلى المطروح حالياً على شغيلة الكتّابة، مثلما هو مطروح على غيرهم، وهو أن يبدأوا مسارهم بالعكس. فيبدأونه بصُورهم، بدلاً من تكليلهم بها، لا سيما بعد رحيلهم، يعني بعد أن تنتهي كتابتهم. كما لو أن المشكلة الراهنة هي، وبحسب ذاك المطروح: لا مجال للكتّاب كي يعلقوا وجودهم، لا مجال لانمحائهم، أي أنهم لا يموتون للأسف، وبهذا، لا يولد لهم قراء. انه خلود الكتاب والقراء، تأبّدهم معاً، ويا له من أمر مرعب!

لكن، هناك طريقة أخرى لمقاربة تغير كتابة بلانشو في إثر صوره، وهي مقاربته من خارج معادلة هذه الكتابة. ففي حين كان بلانشو يبني هذه العلاقة بين كتابته وانمحائه، ويجعل منها ومن ذاته أسطورة، كان يأخذ، وكما في اللقطة القاضية، وضعية المُصوَّر بنظاراته الشمسية. على هذا المنوال، تلاعب بلانشو بالقرن العشرين عبر أسطورته، أوقع تاريخ الأدب الفرنسي في حيلته، عبر تقدمه كمن يتمسك بقرار انعدام تصويره. وذلك، في حين انه كان يُصوَّر. وهذا ما له آثار يصعب الاعتقاد بأنها سلبية. إذ أبدى ان أسطورة الكاتب المنمحي، خلفها كاتب يأخذ وضعيات تصويرية، وهذا، ما يطيح بكل رومانسيتها. كما أبدى كونه فعلاً خلاقاً، بحيث أنه استطاع تخصيص عَيشَين له: عَيش من كتابته، يموت فيه، وعَيش ليس منها، يكون عكس ذلك داخله. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها