الأربعاء 2021/12/08

آخر تحديث: 12:59 (بيروت)

سيدة اليونان والضابط الجريح

الأربعاء 2021/12/08
increase حجم الخط decrease
تُحيي اليونان هذا العام، المئوية الثانية لاستقلالها، وتقيم في هذه المناسبة سلسلة من العروض الثقافية المتنوعة. بالتزامن مع هذه العروض، يستعيد متحف اللوفر تاريخ فرنسا الحديث مع اليونان من خلال معرض كبير يحمل عنوان "باريس-أثينا، مولد أثينا الحديثة 1675-1919". يحوي هذا المعرض مجموعة كبيرة من التحف الأثرية، كما مجموعة من الأعمال الفنية التي أُنجزت في تلك الحقبة، ومنها ثلاث زيتيات تختزل صورة توق اليونانيين إلى الاستقلال ونضالهم في سبيل تحقيق هذا الهدف.

في زمن تضعضع الأمبراطورية البيزنطية وانحلالها، سيطر العثمانيون على العديد من الأراضي اليونانية في القرن الرابع عشر، ثم دخلوا القسطنطينية في 1453، وباتوا أسياد الأمبراطورية الرومانية الشرقية. في مطلع القرن التاسع عشر، ظهرت ملامح الضعف على أراضي السلطنة، وترافق ذلك مع صعود حركة تمرد العديد من الشعوب التي خضعت لحكمها. ثار اليونانيون في 1821، ونجحوا في السيطرة على مناطق متعددة من أراضيهم، غير ان العثمانيين أعادوا السيطرة على هذه الأراضي بعد أربع سنوات. استمر النزاع إلى أن اتفقت القوى العالمية المتنازعة على وضع حدّ له. أقامت فرنسا وبريطانيا وروسيا أسطولا مشتركا في 1827، ودمّرت الأسطول العثماني، بعدها أعلنت روسيا القيصرية الحرب على السلطنة في 1828، فانسحب الأتراك للانصراف إلى هذه الحرب، وأعلن اليونانيون استقلالهم في 1829.

مع اعلان "اتفاقية لندن" في 1830، اعترفت فرنسا وروسيا وبريطانيا بهذا الاستقلال، وتعهّدت بحمايته. وبموجب هذه الاتفاقية، اعتلى الأمير أوتو عرش مملكة اليونان في 1832، وضمّت هذه المملكة أراضي تشكّل نصف مساحة اليونان الحالية. دام حكم أوتو حتى عام 1862، وتولّى الحكم من بعده جورج الأول الذي اغتيل في 1913، فخلفه ابنه قسطنطين الأول الذي كان قائدا للجيش خلال الحرب العثمانية اليونانية في 1897 وحرب البلقان الأولى في 1912. اضطر هذا الملك للتنحي عن عرشه في 1917، وخلفه ابنه الثاني إسكندر الأول الذي قضى بعد ثلاث سنوات. استعاد قسطنطين الأول السلطة بعد وفاة ابنه، واضطر مرة أخرى إلى التخلي عن السلطة في 1922، فخلفه ابنه جورج الثاني الذي شهد ما يُعرف في العالم اليوناني باسم بـ"الكارثة الكبرى".

حلم اليونانيون منذ تأسيس مملكتهم، باستعادة سائر الأراضي التي حكموها في الماضي، ونجحوا في بسط سيطرتهم على عدد منها في السنوات التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى. اندلعت المعركة الفاصلة بين اليونانيين والأتراك خلال تقسيم الدولة العثمانية بين 1919 و1922، وانتهت بهزيمة ساحقة لليونانيين. اضطر الحلفاء إلى التخلي عن "معاهدة سيفر"، ودخلوا في مفاوضات جديدة أثمرت عن معاهدة أخرى هي "معاهدة لوزان" التي كرّست سيادة الجمهورية التركية على تراقيا الشرقية والأناضول. أوصت هذه المعاهدة بإنهاء الخلاف بين تركيا واليونان، وتطَّلب ذلك تهجير أكثر من مليون يوناني من تركيا، وما يقارب أربعمئة ألف تركي من اليونان.

فوق الأنقاض
ينطلق معرض "باريس-أثينا" من سنة 1675، وهي السنة الذي وصل فيها الماركيز دو نواتل، مبعوث الملك لويس الرابع عشر، إلى الأمبراطورية العثمانية. وتشهد لوحة كبيرة تعود إلى تلك الفترة لهذا الدخول التاريخي، وفيها يظهر الماركيز مع حاشيته وسط حشد من الأتراك العثمانيين من جهة، وجمع من المنقّبين من الجهة الأخرى، وترتفع في خلفيّة الأفق مباني جبل الأكروبولس الأثرية. كما هو معروف، شهدت فرنسا في الحقبة الأخيرة من القرن السابع عشر نمو حركة ثقافية تنادي بالكشف عن الآثار اليونانية القديمة باعتبارها منبع الثقافة الغربية الأول، وتحولت هذه الحركة إلى هوس تجاوز حدود العالم الثقافي بشكل كبير. هامت البورجوازية الفرنسية بهذا الميراث، وعبّرت عن تضامنها العاطفي مع "الأصحاب الأصليين" لهذا الميراث، ووجد هذا التضامن العاطفي ترجمته التشكيلية في عدد كبير من اللوحات الفنية، أشهرها دون شك "اليونان على أنقاض ميسّولونغي" التي أنجزها أوجين دولاكروا في 1826.

تقع ميسّولونغي في وسط غرب اليونان، وهي مدينة استولى عليها العثمانيون في 1770 بعد معارك ضارية. تحولت هذه المدينة إلى معقل للثوار اليونانيين في 1826، وقاومت بضراوة الحصار العثماني، غير أنها هُزمت في ليلة العاشر من نيسان، وتعرّض أهلها بحسب الروايات لمقتلة جماعية بعد صمود بطولي، وباتت رمزاً للاستقلال، وأطلق عليها لقب "هييرا بوليس"، أي المدينة المقدسة. تردّد صدى خبر سقوط اليونان أمام الأتراك إثر هذه المواجهة في أنحاء أوروبا، واعتبره أنصار الروح الهلّينية نكبة من النكبات الكبيرة في زمنهم.

جعل دولاكروا من اليونان امرأة، متّبعاً تقليداً شاع قديماً في الحقبة الرومانية، وألبس هذه امرأة الزي اليوناني التقليدي، وصوّرها واقفة على أنقاض الدمار، فاتحةً ذراعيها الممدودتين في وسط التأليف. في القسم الأسفل من الصورة، ومن تحت الركام، تظهر يد جثة رجل قضى في هذه المعركة. في القسم الأعلى، وخلف المرأة التي تجسّد اليونان، يظهر محارب شرقي الملامح واللباس يحمل رمحاً يرتفع نحو السماء القاتمة، ويمثّل هذا المحارب القوى التركية التي كانت لها الغلبة في هذه المعركة.

تحضر هذه اللوحة في معرض "باريس-أثينا"، كما تحضر لوحة أخرى معاصرة لها لا تحظى بشهرتها، وعنوانها "الضابط اليوناني الجريح". أنجز هذه اللوحة في روما فنان فرنسي من المدرسة الكلاسيكية المحافظة يدعى كلود بونفون، وهو من مدينة ليون الفرنسية، وقد عُرف خلال مسيرته بالتزامه الصارم بالتقاليد الأكاديمية. يظهر الضابط الجريح في مركب صغير وكأنه على وشك لفظ النفس الأخير، بين شيخ ذي لحية بيضاء يعتمر قبعة يونانية، ورجل ذي لحية قصيرة سوداء. يسند الجريح ظهره على صدر الشيخ الذي يمسك به وهو يتطلّع من الجهة الأخرى نحو الأفق. في المقابل، يحدّق الرجل ذو اللحية السوداء بالرجل الجريح، رافعا ذراعه اليمنى، مشيرا بإصبعه في اتجاه الأفق. تشير نظرة الشيخ ويد الرجل إلى ساحة المعركة حيث يرفرف العلم اليوناني من خلف الضباب وسط كوكبة من المقاتلين. عبّر كلود بونفون بهذا العمل عن تضامنه مع دعاة الاستقلال اليوناني، كما انه أنجز لوحة أخرى تمثل صورة ذاتية له، وفيها ظهر معتمرا القبعة اليونانية الحمراء.

الفدية
إلى جانب هاتين اللوحتين، يعرض متحف اللوفر لوحة بعنوان "الفدية" أنجزها في 1906 رائد الفن التشكيلي اليوناني تيودوروس راليس. وُلد هذا الفنان في إسطنبول في منتصف القرن التاسع عشر، ودخل عالم الفن باكراً ولمع فيه، فتعهّد أوتو ملك اليونان الأول برعايته، وأرسله إلى باريس حيث تتلمذ على يد المعلّم المستشرق جان ليون جيروم، فسار على خطى استاذه، وبرع في هذا الحقل، وثابر على العمل، إلى أن توفي في لوزان سنة 1909.

في "الفدية"، تظهر صبية مكبّلة اليدين وسط كنيسة أرثوذكسية تبعثرت محتوياتها على الأرض. تبدو هذه الصبية عارية الصدر في ثياب ممزقة، معتمرة منديلا شرقيا يتدلى من خلف ظهرها، وهي تحدّق في اتجاه المشاهد، وتظهر سمات الذعر على ملامح وجهها. ويوحي الاسم الذي أطلقه الرسام على لوحته بأنها صبية من السبايا اللواتي حظي بهن الأتراك في معركة من معاركهم، تبعاً للمنظومة التي سادت المخيلة الجماعية في تلك الحقبة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها