الأربعاء 2021/12/08

آخر تحديث: 13:28 (بيروت)

الكتابة كمغادرة للمعرفة

الأربعاء 2021/12/08
الكتابة كمغادرة للمعرفة
ماتيس
increase حجم الخط decrease
هناك فكرة شائعة عن الكتابة، فكرة ليست مضرة بحد ذاتها، لكنها، وحين تفرض ذاتها كأنها هي التي تمثل، وبمفردها الكتابة، تصير كذلك. هذه الفكرة مفادها، ان الكتابة هي وسيط تنقل المعرفة لقراء النصوص التي تنتجها. اذ انها بمثابة قناة مؤلفة من مدخل ومخرج، في الاول، توضع المعرفة، ومن الثاني، تنصرف الى تلك النصوص. ولكي تكون الكتابة هكذا لا بد ان يكون مستخدموها متقنين لكيفية ادخال وإخراج المعرفة اياها منها، وقبل كل ذلك، لا بد لهم ان يمتلكوا هذه المعرفة سلفاً. فالمعرفة، بحسب هذا التصور، هي سابقة على الكتابة، او بالأحرى شرطها: لكي نكتب لا بد ان نكون على معرفة ما، لكي نكتب لا بد ان نكون أصحاب معرفة. الكاتبات والكتاب هم، اساسا، العارفون، وفي حال لم يكونوا كذلك، ستكون كتاباتهم مجرد تشغيل لا جدوى منه لتلك القناة، او حتى ستكون إبراز لكونها فارغة.

لم تستهوِني هذه الفكرة يوما، وهذا، لسبب اساس، وهو ان الكتابة ليست فقط مثلما تقدمها، اي انها قد تكون لكثرة كناية عن ادخال وإخراج لمعرفة سابقة في قناة ما، ولكن، هذا لا يعني انها ليست سوى كذلك. فالكتابة، وبما هي، هنا، ممارسة، لا تستلزم وجود لمعرفة ما قبلها، على العكس، حين تحضر المعرفة مسبقاً، تبدو معرقلة لها. ما يجعل الكتابة تصير سبيلاً للنفاذ من هذه المعرفة، للمغادرة من تحت سطوتها، كما لو انها سجان يريد اجبارها على البقاء في حبسه. فالكتابة التي تبقى كذلك، سرعان ما تموت، وحين تموت الكتابة، الى ماذا تتحول؟ تغدو نصوصها حقلاً معلوماتياً، مبوباً، شبيها بصفحات الويكيبيديا -مع كل احترامي لهذه الموسوعة- تعرض مضمونها بطريقة باردة او حتى حارة. لكن، في الحالتين، تبقى على غاية واحدة منها: انتاج المعروف. فالكتابة، وبما هي محبوسة في المعرفة، وبما هي تلامس الموت، تكون نقلاً للمعروف، وهذا، لكي يدخل في قناة كتابة ثانية كمعرفة ويخرج منها ليصير معروفاً اكثر فأكثر. كما لو ان المعرفة التي تسبق الكتابة، التي تعيقها، هي المعروف الذي لا يطلب سوى ان يزيد من كونه ذاته.

لكن، حين لا تنحبس الكتابة في المعرفة، بل تكون فراراً منها، هي، على الاغلب، تدور، بداية، كحذف لهذه المعرفة، او مقاومة لعودتها. يمكن تخيل دائرة كثيفة، يعني مؤلفة من دوائر صغيرة في قلبها، وهي ليست مرسومة سوى بخط واحد يجمعها كلها. فجاة، يفلت هذا الخط منها، وفي اثناء سيره من بعدها، تبدأ بالزوال. الخط هو الكتابة، والدائرة هي المعرفة.

الاشكالية بالطبع في هذا السرد الهندسي لعلاقتهما هي إشكالية واضحة: الخط نفسه الذي يرسم الدائرة، المعرفة، يعود ويفلت منها ككتابة. كما لو ان الدائرة هي من صناعة الخط، كما لو ان الكتابة، وفي علوقها بالمعرفة، تسجن نفسها بنفسها، لا بل، وايضا، تبني سجنها، وتتركه يحبسها. لتناول مرد فعلها ذلك، لا بد من استفهام جديد، وهو ماذا تفعل الكتابة بعد محو المعرفة، اي كيف يمشي الخط بعد زوال الدائرة؟ يمكن القول ان الكتابة، وعندما لا تكون مسبوقة بالمعرفة، تغدو على قرب من ممارستها، التي تعني انطلاقها من دون اي تصور عما قد تفضي اليه. هذه الكتابة ليست خروج من المعرفة، خروج من المعروف، انما هي كتابة ذهاب في ارض، ليست قاحلة، انما تنبني شيئا فشيئا خلال المرور فيها. كتابة كذهاب الى المقبل، الذي ليس هنا بعد، كمحاولة للقاء معه من دون الدراية به، بما هو، بماذا سيكون، مسبقاً. لهذا، الكتابة التي تنحبس في المعرفة هي كتابة بعيدة عن هذا المقبل، او بالاحرى هي كتابة من دونه.

ولهذا ايضا، الكتابة، وعندما ينتابها ارتياع من هذا المقبل في حين بناء ارضها صوبه، تتوقف عند نقطة ما، وتشيد معرفة، تلوذ اليها للدفاع عن ذاتها بالانطلاق منها: الدفاع ضد المقبل الذي يروعها، او الذي تتروع من ذهابها اليه. ولكن، هذه المعرفة التي تشيدها وتختبيء فيها هي ليست المعرفة التي فلتت منها سابقا، فالكتابة، وحين ترتاع من المقبل فتبغي ان ترجع اليها، تفعل ذلك بواسطة إعلاء سواها. اذ ان الكتابة، وبعد ان تخرج من المعرفة، قد تعود اليها عبر غيرها، وعندها، تكون المعرفة رجوعا في اثر ارتياع. لكن، بما ان الرجوع غير متحقق، فيحل مكانه الاعلاء: بدل المعرفة الممحية، هناك معرفة تُرجع اليها بعد غيابها!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها