الجمعة 2021/12/24

آخر تحديث: 13:25 (بيروت)

في حب ما لفرنسا

الجمعة 2021/12/24
في حب ما لفرنسا
increase حجم الخط decrease
هذا النص، كتبه المحلل النفسي الفرنكولبناني، نظير حمد، حول شأن من شؤون الهجرة الى فرنسا، وهو علاقة بعض المهاجرين بالمماثلين لهم، التي تستوي على نبذ واقصاء، تحقيقاً لتصور ذاتي لا يمكن له أن يتحقق. عرَّبه: روجيه عوطة.
 
فرنسا، اعذريني، لا أحبك سوى باعتدال.
أن يصير الغريب فرنسياً، وكذلك أولاده، فهذا لا يخلو من العواقب. هناك عبور من طرف الى غيره. هذا العبور هو بداية عبور تصوّري لأنه موجه بحسب طبيعة المثال الذي تعينه الصيرورة الفرنسية، او الذي تعينه المسافة التي تشقها هذه الصيرورة حيال الأصل.

وضع مثال على هذا النحو يترافق مع شعور بالاصطفاء. في حال أعطت فرنسا الجنسية لشخص ما، فهذا يعني أنها تعترف به، أنها تكرّمه. إنه بريستيج مهدى للأناس المتميزين. لا يمكن ان يغدو المثال الفرنسي رخيصاً، فيسقط في البازارات أو الأسواق. الإيديولوجيا الإقصائية ضد الغرباء تعيد وتعطي كل البريق لذلك البريستيج. الكثير من الفرنسيين المجنّسين يجدون في هذه السياسة الإقصائية اصطفاءً جديداً لهم.

هنا مثلاً خبرية رمزية جديرة بالإهتمام حول هذا الشأن: في يوم من الايام، اتصلت بي سيدة لأخذ موعد لأنها تريد أن تقدم على عمل تحليلي معي. أجبتها إيجاباً. لكني، حين أعطيتها عنواني، لم يكن ردّ فعلها منتظرَاً. قالت لي، وبعد تحديد الموعد، إنها تحتاج الى المزيد من الوقت قبل أن تعمد الى اتخاذ تلك الخطوة المهمة، اي البدء بتحليلها.

بما أنها عرّفتني عن نفسها باسمها الكامل، تنبهت الى أصلها الشمال-افريقي، علّقت: "قد يحملك هذا الى أخذ وقت طويل للغاية"، قالت: "لماذا تقول ذلك؟". فأجبت: "لأن الخطورة بالنسبة إليك أنك، وفي الحي، حيث اعمل، ستلتقين بالمماثلين لك". بدأت السيدة بالضحك، وقالت: "لقد فهمتُ كل شيء، سأحتفظ بموعدي".

خطورة أن تلتقي بالمماثلين لها قد يهدد المثال المتعلق بجنسيتها المكتسبة. أحياناً، يواجه المُجنّس ما لا يمكن له تحقيقه: أن يثبت أنه فرنسي ككل الأغيار. ماذا يمكن أن يعطى للفرنسيين من أجل إقناعهم بأن المهاجر يستحق محله بينهم؟ في حال أن كلاً منهم، ولأنه فرنسي أصيل، يحدد ذاته كمن يكفل المثال الفرنسي، فعندها، تصعب تلبية الجميع. كل مهاجر مجنّس سيحضر في موضع ابراهيم مقابل أمر الله. هل هو جاهز ليضحي بأعز ما لديه كشهادة حب؟

رأينا مهاجرين يتخلصون من كل ما يوصلهم بثقافتهم الأولى. غيّروا أسماءهم، قطعوا نهائياً مع أشباههم القدامى، كما أنهم، وبإصرار، ألغوا من لغتهم كل لكنة قد تكشف أصولهم كغرباء. ذهبوا بعيداً في ترك انتمائهم القديم لكي يلتصقوا بشكل كامل بالصورة التي، وبحسبهم، تمثل الفرنسي المثالي الذي يبحثون عن تجسيده. ما الذي يمكن أن يعطى أكثر من أجل الالتصاق بمثال وطني ينفذ منا باستمرار؟

برنارد شو، في مسرحية بيغماليون، يشير الى الجواب: التحول الى حماة دائمين لطهارة اللسان والعِرق. برنارد شو يحكي لنا قصة بائعة ورد شابة، تدعى إليزا دوليتل، غير متعلمة، وتتكلم باللسان الشعبي اللندني. يلتقي أحد الألسنيين المعترف بهم عالمياً، البروفيسور هايغينز، بإليزا، فيأخذ على عاتقه، متحدياً صديقاً له، أن يعلم بائعة الورد التحدث بلسان يليق بأميرة. نجحت العملية الى درجة أن إليزا، وعند استقبالها وسط النبلاء، جذبت كل الأنظار اليها، ما أدى إلى ذيوع الغيرة منها. في هذا المطاف، يتدخل السيد نيبوموك، الذي كان تلميذاً قديماً لهايغينز، والذي كرس حياته لخدمة الارستقراطية. كان عمله الأساس ان يستعمل فنه لكي يتوصل الى كل أثر للكنة قد تخون نبيلاً مزعوماً، وتكشف عن أصله. كان قد غدا الخادم المنذور للنبالة، بحيث يسهر على حماية طهارة عرق أسياده. في هذا اليوم، كلّفته المُضيفة أن يكشف أصل الأميرة المثيرة للريبة، أي إليزا. يفعل كل شيء لكي يلتقيها، ولكي يتحدث معها. وهذا ما يتوصل اليه:

-المُضيفة: "ها هو نيبوموك هنا. هل علمت شيئاً ما عنها؟ هل تدعي نبالتها؟".
- نيبوموك: "علمت كل شيء عنها، إنها مزيفة... تتحدث بإنكليزية ممتازة أكثر من لسان أي شخص اخر. وحدهم الغرباء الذي تعلموا اللغة يستطيعون التحدث بها بهذه الطريقة... إنها هنغارية، ودمها ملَكي".

أنجز نيبوموك مهمته، ووقع في فخ ما يبدو له أنه طاهر كثيراً. إذ يعرفه جيداً طالما أنه نذر حياته لبلوغ هذا المثال. نيبوموك شخصية دارجة بين المجنّسين. إذ سرعان ما يغدون حراس المعبد، نافرين من فكرة تقاسم امتيازهم مع من يعتبرونهم رعاعاً، أي غيرهم من المجنّسين، الذين، وبحسبهم، ينتحلون موقعاً لا يستحقونه.

لهذا، يطمئن المجنّسون الى الخطاب العنصري. إذ يبعث فيهم الطمأنينة عبر تركهم يؤمنون بأنه يجسد المثال الوطني، ويسهر على إبقاء هذا المطرح محجوزاً لهم بوصفهم صفوة سعيدة. وأكثر من ذلك، هو يحرك كل المحبطين، المصابين بالخيبة، والمتروكين. حين يمشي هذا الخطاب، يُرجع اليه كأمل مؤكد. لا عمل لي، أصوّت لمنظري الإقصاء. جاري العربي لا يروق لي، أصوّت لهؤلاء لأن خطابهم الإقصائي يجعلني أؤمن بأن جاري المكروه سيُطرد أوتوماتيكياً في حال وصولهم الى السلطة، الخ.

تخطر لي دوماً هذه التجربة التي استخلصها من عيادتي التحليلة. شاب فرنسي من أصل شمال-افريقي، كان قد تبنته أسرة كاثوليكية مؤمنة، أحبته وساعدته على أن ينضج، وأن يثبت هويته وإيمانه الجديدين. كان يجد ذاته في حالة حسنة للغاية داخل هذه الأسرة رغم تحوله إلى فارس أبيض لدينِه الجديد. هذا ما يبديه لي باستمرار، اذ أنه، وكل مرة، يجيء فيها الى الجلسة معي، يسمعني أنه لا يحبّ الحي، وهذا، لأنه يلتقي بالكثير من "الأوباش" فيه. 

كرهه لهم كان كبيراً الى درجة الاستفهام مني عما جعلني أقبل العيش في حي "الرعاع" ذاك. لقد طالت شكايته لاشهر، ثم، وفي يوم من الأيام، سمع نفسه، وقف، وقال لي: "سيدي، هل أنت من أصل عربي؟". حين أجبته بنعم، تلخبط معتذراً. طمأنته بأني لم أسمع في خطابه أي شيء يسيء لي شخصياً، انما سمعت شيئاً ما يتعلق به هو. وحين أضفت سائلاً إياه عن الثمن الذي، وبحسبه، يجب دفعه لكي يغتسل بالكامل مما يسميه أصوله، بدأت دموعه بالانهمار قبل أن يجيبني: الثمن المتبقي لكي أدفعه هو هذه الدموع.

كان قد أحب فرنسا، عائلته، هويته الجديدة، ثقافته الجديدة، إيمانه الجديد. لكن، هذا كله لا يحمي كلياً مما لا يتوقف عن الإلحاح في تاريخ أصله. اللقاء بأشباهه القدامى في الحي، يحيله، وبطريقة عنيفة، الى ما كان قد آمن بكونه ما عاده، وإلى اكتشافه بأنه ما زال يضايقه.
كيف يمكن أن أتطهر من كل أثر يرجعني إلى تاريخ أجدادي، الذي يختلط بتاريخ شمال افريقيا؟ هل يجب عليّ أن أطرد كل المماثلين لي، لكي أُشرعن وضعي كمصطفى في فرنسا؟
أخلص الى هذا الاستفهام: من يحب فرنسا أكثر، زولا المضطهد لأنه كتب "إني أتّهم"؟ أم بيتان الذي تعامل مع النازيين بحجة إنقاذ فرنسا؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها