الثلاثاء 2020/04/14

آخر تحديث: 14:28 (بيروت)

جينالوجيا العدو

الثلاثاء 2020/04/14
جينالوجيا العدو
جان بودريار (غيتي)
increase حجم الخط decrease
النص الآتي هو كناية عن مقاطع منفصلة من كتاب "D'un fragement l'autre" (ألبان ميشال، 2010)، الذي يشتمل على مقابلة طويلة بين جان بودريار وفرنسوا ليفونيه. هنا، تعريبه بعنوانٍ احتواه من دون ان يحمله في أصله:

كنا قد ميزنا بين أربع أنماط من الهجوم، والدفاع، من العدوانية والدفاعية، حتى ألفنا بها نوع من الجنيالوجيا. الذئاب، الجرذان، الصراصير، والفيروسات. بدايةً، كان العدو أمامي: الذئاب-وهذا ينسحب أيضاً على العدو الإنسي-حينها، كنا نحجر على أنفسنا، نبني المتاريس، نشيد مدينة القرون الوسطى، وفي كل الأحوال، نقاوم جبهياً، أي نجابه. كان العدو مرئياً، بحيث أننا على علم به، وبطريقة ما، بقينا على هذا الوضع حتى صراع الطبقات عند ماركس.

بعد ذلك العدو، جاء عدو غيره، وهو الجرذان: إنه عدو تحت أرضي، بالتالي، الدفاع الجبهي لا يشتغل حياله، ولهذا، يجب خلق شيء مغاير، وقاية ما، نظافة ما، محاولة للإطباق على هذا العدو الذي لا يمكن الإمساك به بيسر... لاحقاً، يأتي جيل آخر من الأعداء: الصراصير، التي لا تتنزه في فضاء ثلاثي الابعاد، ولكن، في كل التجويفات. فعلى عكس الجرذان، هي تقريباً أينما كان، ومن الصعب إنقاص عددها، لذا، من اللازم تحويل كل أنماط الدفاع ضدها. المرحلة الرابعة: برزت الفيروسات، وها نحن في البعد الفيروسي الرابع، حيث أن المقاومة قد غدت محالة...فماذا من الممكن أن نفعل إذاَ؟

لا بدّ من التنبه إلى ماذا يحيل كل هذا: الجرذان بمثابة الأنظمة السرية، بمثابة الدسيسة. الصراصير بمثابة تشويش على كل الأنظمة بالتوازي مع كون تدبر الأشياء في قنواتها هو تدبر عسير. أما الفيروس، فهو الأسوأ، لأنه المعلومة بحد ذاتها. إذ إنه حمال المعلومة، وفي الوقت نفسه، مدمرها. إنه عدو، إلا أننا لا نعرف شيئاً عنه. هل له وظيفة فقط؟ وظيفة حيوية؟ فعلياً، الاحتماء منه عويص للغاية. هذه مشكلات تطرح نفسها على النظام، لا سيما في صعيد دفاعه عن ذاته. غير أنها تنطرح أيضاً على هؤلاء الذين يريدون الإجهاز على النظام من خلفه، بحيث أن فعلهم هذا مجبر، ولكي يتحقق، على العبور بتبدلات الدفاع والهجوم اياها.

من ناحية السياسة، هناك مستويات مختلفة: مستوى الركس، رد الفعل، المجابهة، ومستوى التنفيس الديماسي، تحت أرضي. يجب التأكيد على الاختلاف بينهما: الركس، التسلح ضد، محاولة زعزعة النظام. والتنفيس، الذي لا يستلزم، وبكل سهولة، سوى دحرالنظام، رفضه، من دون محاربته، ومن دون توهم إمكانية الذهاب في هذه الحرب معه إلى عقبها، إذ أنه ليس مقبولاً فقط... يبدو لي هذا التنفيس اليوم أنه علامة على لا-اكتفاء غائر، ولكنه، لا يستطيع أن يمر في وعي نقدي، وليس ممكناً له أن يتسلح ضد عدو مرئي.

فضدّ عدو لامرئي، ولا يمكن الإمساك به، أفترض وجوب التطبع به، الإتسام بلامرئيته، وبانعدام إمكانية احتجاز. على الفكر أن يصير فيروسي أيضاً. وهذه ليست خلاصة تشاؤمية، ولكن، يجب محاربة العدو بأسلحته الخاصة، حسب منطقه الخاص. لهذا، لا بد للفكر، ولكي يكون تحدياً، أن يتساوى مع النظام، الذي يقوم بالمفارقة، بالتملص، بالاعتباط... إننا نتوهم كثيراً في رد المشكلات إلى موضوعات تقليدية، فنمضي إلى التجمع نقابياً، نعترض، نتظاهر، كأننا لا نزال نتعامل مع العالم إياه.

على الفكر أن يكون متطابقاً مع موضوعه، وبالفعل نفسه، منصرف منه. حيال عالم فيروسي، رقمي، على الفكر، وكما سلف الذكر، أن يصير فيروسيا يعني قادرا على خلق التعاقبات والانقطاعات، لتكون مختلفة فيه عما هي في النقد الموضوعي أو حتى النقد الجدلي. لا مناص له من الانغماس في فيروسية العالم، وفي الوقت نفسه، معارضته، اما، وإن لم يفعل ذلك ، فلا سبيل له إلى الوجود.

من الضروري أن يكون الفكر في مذهبه أسرع من الأشياء، أسرع من العالم. من وجهة نظر معينة، هو لاحق على العالم، الذي، ومن دون فرضية الواقع الموضوعي حتى، يتقدم عليه. الاقتصاد يتغلب بالسرعة على فكره. ولكن، من الممكن انوجاد مجال آخر، حيث الفكر في مقدوره، وعلى طريقته - بنوع من القطع الناقص- أن يكون أسرع من النظام. ثمة لعبة مبهمة بين توازي الفكر والعالم، وتورط واحدهما في الثاني: هل هما متزامنان؟ هل هما منفصلان بشكل حاسم؟ هل يجب أن يكونا كذلك؟ هناك مسافة تحدد سرعة إيقاع غير متعادلة بين الفكر والعالم. فالفكر "المحافظ" الذي يطرح التفكير كإنعكاس للعالم هو فكر متأخر على الدوام، ومن هنا، يقول ريلكه:"مذهب الأحداث هو كونها تسبقنا على الدوام، فلا نقدر البتة على تداركها".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها