الأحد 2021/12/12

آخر تحديث: 08:29 (بيروت)

الجائحة وأفكار نهى المعتوهة

الأحد 2021/12/12
الجائحة وأفكار نهى المعتوهة
increase حجم الخط decrease
كانت الجائحة لا تزال في بدئها حين ذهبت نهى إلى الاجتماع المسائيّ للجوقة الكنسيّة التي انضمّت إليها قبل سنتين. الأخبار عن اقتراب فرض الحجر الصحّيّ كانت تتطاير في الهواء مثل ذرّات الثلج التي غطّت الطبيعة في النصف الثاني من شهر يناير. راحت تتساءل عن مصير الاجتماع الأسبوعيّ، الذي بات يعني لها الكثير، إذا ما تبيّن أنّ الأخبار المتطايرة في الهواء ليست مجرّد شائعات. وفيما هي تنتظر التئام عقد المرتّلات والمرتّلين، أخذت تتبادل أطراف الحديث مع سيّدة في العقد الثامن من عمرها كانت تنتظر مثلها وصول الأعضاء الآخرين. قالت لها المرأة المسنّة إنّها تفضّل المجيء إلى الاجتماع على الانزواء في البيت خوفاً من انتقال عدوى المرض إليها: «لماذا يظنّ كلّ واحد منّا أنّه يستطيع أن يعيش إلى الأبد»؟

مضى زمان طويل منذ ذلك الحديث القصير. غصّت غرف العناية الفائقة بالمرضى الذين يحتاجون إلى آلات التنفّس. كاد المحظور أن يقع، أي أن يضطرّ الأطبّاء إلى اتّخاذ قرار بإسعاف بعضهم، فيبقى على قيد الحياة، والإعراض عن بعضهم الآخر، فيموت اختناقاً. إنّ قراراً كهذا لا يتّخذه الأطبّاء في العادة إلّا في الحالات القصوى، كالحرب السوريّة، مثلاً، التي عاشت نهى بعض فصولها قبل أن تأتي إلى ألمانيا مع أختها سيراً على الأقدام العام 2015. هناك، في حلب، كان الأطبّاء في المشافي الميدانيّة يتّخذون قرارات كهذه على نحو شبه يوميّ. لكنّ نهى تدرك أنّ هذا ليس مبرّراً لعدم الامتثال إلى قرار الدولة بالتزام الحجر واحترام التباعد. فالحياة قيمة في ذاتها، ويجب المحافظة عليها.

الحياة قيمة في ذاتها، صحيح. ولكن أيّ حياة؟ وماذا يبقى من هذه الحياة إذا تحوّل الناس إلى مجرّد فئران يمكثون في جحورهم، وصار الإنسان الفرد، في نظر الحيوانات الاجتماعيّة الأخرى التي تحيط به، مجرّد أداة لنقل العدوى؟ تذكّرت نهى كلمات المرأة العجوز في الجوقة التي انفرط عقدها، وساورتها أفكار تكاد تستحي بها حتّى حين لا تسرّ بها إلى سوى ذاتها: ما هو الأفضل لهاتيك العجائز اللواتي يعشن وحيدات في شققهنّ؟ أن ينفردن ويذبلن من فرط الوحدة خوفاً من الفيروس، أم أن يتعاملن معه كما كنً يتعاملن قبلاً مع الأمراض الأخرى الكثيرة التي تنتقل بالعدوى، كالأنفلونزا مثلاً، أي من دون حجر وكمّامة؟


راحت نهى تطرح عن مخيّلتها مثل هذه الأفكار المعتوهة. فالأولويّة اليوم هي للمحافظة على الحياة. وبين الحياة ونوعيّة الحياة، عليها أن تختار الحياة، وألّا تفقد الرجاء في قدوم أيّام أفضل ينتصر فيها الطبّ على الجائحة، فتعود دورة الحياة إلى سابق عهدها. تشبّثت نهى بهذه الفكرة الجميلة خوفاً من أن تفلت من يديها وتتحوّل إلى سراب. لكنّ الأفكار المعتوهة ظلّت تتسرّب إلى عقلها وتضاعف حيرتها. متى تزول الأقنعة التي صارت هي القاعدة في الشوارع والمكاتب والحافلات؟ كم يخسر وجه الإنسان من بريقه حين لا نستطيع رؤية شفتيه وأنفه، ولا نعرف متى يبتسم وكيف يتكلّم! تخال نفسك في مستشفًى لا حدود له ولا قرار. حين بدأ الحجر، زعموا أنّه ستكون له انعكاسات إيجابيّة على البيئة والحياة العائليّة. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الناس باتوا أشدّ قساوةً وأكثر قابليّةً للتشاجر بعضهم مع بعض، ولعلّهم أصبحوا أيضاً أكثر كسلاً وتعرّضاً للسمنة. العلاقات الاجتماعيّة مهدّدة بالتآكل والانهيار. طلبة المدارس يتسكّعون في بيوتهم وينخرهم ضجر التعليم الافتراضيّ. طلبة الجامعات يؤمّون صروحاً معظم مكتباتها مقفلة، ومطاعمها أشبه بالسجون، وأساتذتها يستغلّون أيّ فرصة لتحويل محاضراتهم «الحضوريّة» (لكونها مشتقّة من فعل حضر) إلى استعراضات رقميّة «غيابيّة».


فكرّت نهى في هذا كلّه. ثمّ عاودتها كلمات المرأة الطاعنة في السنّ: «لماذا يظنّ كلّ واحد منّا أنّه يستطيع أن يعيش إلى الأبد»؟ فكّرت أيضاً في الجوقة التي تبعثرت، في مشافي حلب الميدانيّة التي كانت تجترح الحياة في قلب الكارثة. وفيما هي تخطو خطوةً إلى الأمام وتتمسّك بالبقاء على قيد الحياة، شعرت بأنّها تعيش في مجتمع تحوّل برمّته إلى مجرّد عضلة تحشرج خوفاً من الموت.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها