الأحد 2021/10/31

آخر تحديث: 11:56 (بيروت)

متاحف فرنسا العلمانية تحتفي بفنون الإسلام

الأحد 2021/10/31
increase حجم الخط decrease

في مبادرة هي الأولى من نوعها، يستعد متحف اللوفر بالتعاون مع مؤسسة المتاحف الوطنية في فرنسا لإقامة ثمانية عشرة معرضا فنيا تحمل عنوانا جامعاً: "فنون الإسلام، ماضٍ من أجل الحاضر"، وذلك من 2 تشرين الثاني/نوفمبر إلى 27 آذار/ مارس. تتوزّع هذه المعارض على ثماني عشرة مدينة فرنسية، ويضم كل منها عشرة أعمال فنية مختارة من مقتنيات المتاحف الفرنسية، إضافة إلى سلسلة عروض ومحاضرات توثيقية تلقي الضوء على دلالاتها الثقافية.



تجمع هذه المعارض الموزعة على الأراضي الفرنسية مجموعة من مئة وثمانين أثرا فنيا تختزل جمالية الإسلام وثرائه الثقافي. على عكس التقليد المتبع في العادة، لا تعود هذه الأعمال إلى بقعة جغرافية محددة، كما أنها لا تنتمي إلى حقبة زمنية. يجمع كل معرض من المعارض الثمانية عشرة أعمالا تعود إلى شعوب مختلفة، ويختزل كلّ منها تاريخاً طويلاً يمتدّ من الحقبة الأموية إلى الأزمنة الحديثة، ويشهد لثراء الحضارة الإسلامية وتعدّديتها الثقافية. ويأمل منظمّو هذه التظاهرة الفريدة في أن تساهم هذه المعارض في نشر التعريف بالحضارة الإسلامية على الأراضي الفرنسية، وإلقاء الضوء على حركة التبادل الثقافي التي رافقت نمو هذه الحضارة على مدى الأزمنة المتلاحقة.

في خريف 2003، افتتح متحف اللوفر جناحا خاصا بالفنون الإسلامية، وفي خريف 2012، تم توسيع هذا الجناح بحيث تضاعفت مساحته ثلاث مرات. ضمّ الجناح الجديد أكثر من ثلاثة آلاف قطعة يعود قسما منها لمتحف الفنون التزيينية الباريسي، وبات متحف اللوفر يضم أكبر مجموعة إسلامية في العالم بعد متحف الميتروبوليتان في القارة الأميركية. إلى ذلك، نظم اللوفر في العقدين الأخيرين سلسلة من المعارض الإسلامية الكبيرة، كما نظمت متاحف فرنسية أخرى معارض من هذا الطراز تماثلها في الأهمية. تخرج تظاهرة "فنون الإسلام" اليوم عن هذا الإطار، واللافت أنها تُنظّم برعاية وزارتي لثقافة والتربية الفرنسيتين، وتتوجّه بنوع خاص إلى الأساتذة والطلاب.

تتبنّى هذه التظاهرة "خطة أكاديمية وطنية"، تهدف إلى تقديم صورة ثقافية للإسلام تكسر الصورة النمطية السلبية التي سادت في الآونة الأخيرة، إثر حادثة مقتل المدرّس صمويل باتي في العام الماضي على يد متطرّف شيشاني. ومن المتوقع أن يلقي وزير التربية والتعليم كلمة في متحف اللوفر، بمناسبة مرور عام على مقتل هذا المعلّم. إلا أن أهمية هذه التظاهرة تتجاوز هذه الدور التربوي، إذ انها تعرّف بالدرجة الأولى بالمجموعات الإسلامية التي تملكها المتاحف الفرنسية، وتُلقي الضوء على قطع مجهولة لا تعرفها إلا قلّة من أهل الاختصاص.

تعرّفت أوروبا باكراً على الفنون الإسلامية التي وجدت عددا كبيرا من العلماء الذين قدّروها ووثقوها منذ القرن التاسع عشر، وكان بين هؤلاء العلماء عددٌ كبيرٌ من الفرنسيين. وفقا للمنهج التقليدي السائد منذ عصر النهضة، صُنّفت هذه الفنون ضمن الفنون الحرفية التزيينية "الصغرى" وبقيت خارج إطار الفنون "الكبرى" في مرحلة أولى، ومع تطور القراءات الفنية، وظهور تعريف جديد بالجماليات يناقض بشكل جذري التعريف الكلاسيكي القديم، دخل الفن الإسلامي في دائرة الفنون الحضارية العظيمة، وظهرت طائفة من المتخصصين الذين عكفوا على دراسته والتعريف بنتاجه المتعدّد الوجوه.

منذ بداياته، تميّز الفن الإسلامي بتبنيه الخط العربي. تحوّل هذا الخط سريعاُ من لغة ووسيلة للتواصل إلى فن مستقلّ مبني على نظام هندسي محكم بقوانينه وأسسه. أول الحروف الألف. هي الأساس ومنها سائر حروف الأبجدية في استقامتها وانحنائها، تتعدّد الحروف لكنها تنتظم وتعود واحدة. من النقطة إلى الخط المستقيم إلى الخط المنحني، يؤسس الخط العربي بحرا من الأشكال التي لا تنتهي.  هكذا تحوّل الخط العربي إلى لغة فنية شكليّة سادت طوال عشرة قرون من التاريخ، نمت فيها وصارت فناً يعرف بـ"هندسة الروح"، فن يطل على الروح من أفق الهندسة، حيث الشكل هو المعنى والمضمون.

المنطق هو السيد الثابت. لا مشاعر ولا حالات. النظام الهندسي هو روح الحرف الفني. يشهد الشكل تحولاته ويبقى حاضرا خارج الزمان وخارج المكان وخارج العاطفة. يبرز الفن الإسلامي هنا كفن تجريدي بامتياز. فن يقدم نفسه كلغة شكلية تنزه الشكل وتجعل منه جسد اللوحة وهيكلها. فن يلغي الموضوع، يحذفه ويجعل من الشكل كيانا للعمل. فن حوّل الخط العربي من وسيلة لنقل لغة الى لغة قائمة بذاتها محكومة بشروطها وقواعدها الخاصة بها. لا يروي هذا الفن، لا يصف ولا ينقل مشهدا. لا يشاهد بل يشهد للذي "ليس كمثله شيء" (الشورى 10). تقدّم تظاهرة "فنون الإسلام" العديد من النماذج التي تختزل هذه الجمالية بأساليب متعدّدة، منها أعمال معروفة، ومنها أعمال تخرج اليوم من الظل إلى النور.

حضور الخط والزخرفة الهندسية المجردة لم يمنع حضور الصورة كنوع فني عرفه المسلمون منذ الحقبة الأموية إلى القرن التاسع عشر. تتعدّد المواضيع، لكن اللغة واحدة. يتشابه الرجال والنساء والملائكة كأنهم ذرية واحدة. أحصنة وغزلان وأشجار: مفردات واحدة تعود وتتكرر في حديقة واحدة. ينطلق المصور من الصورة الظاهرة نحو الصورة الباطنية. ينتفي صراع الثنائيات ويحضر الباطن في الظاهر، كما يقول الحديث الشريف: "سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض". الخلفية واحدة، المنظور معاكس، والنور يأتي من كل مكان. يسبق خيط الرسم عملية التلوين ويحدد أجزاء التأليف. كذلك يعتمد تناسق الألوان ورسم حدودها وتدرجاتها على الصياغة الجلية والتنفيذ الواضح. تتمسرح الحياة ويتجلّى الوجود ساجدا يسبّح.

تقدم سلسلة المعارض الفرنسية المرتقبة مجموعة مختارة من هذه الأعمال التصويرية، وتعكس هذه المجموعة تطور فن التصوير وتعدّد أساليبه ومدارسه، من الحقبة العباسية بفروعها الفاطمية والسلجوقية، إلى المدرسة الصفوية والمدرسة العثمانية، مروراً بالمرحلة الآسيوية التي سبقت ظهور هاتين المدرستين، وصولاً إلى المدارس التي ظهرت في القرن التاسع عشر.

تأتي التظاهرة الفرنسية تحت عنوان "فنون الإسلام، ماضٍ من أحل الحاضر"، واللافت أن كل معرض من معارض هذه التظاهرة يحوي إلى جانب القطع "الأثرية" عملاً فنياً معاصرا، يعكس بشكل ما أثر هذا الماضي العريق. في الخلاصة، تأتي هذه التظاهرة في ظل أزمة اجتماعية ثقافية تربوية تعاني منها فرنسا العلمانيّة، غير أنها تقدّم فرصة للتعرف على المجموعات الفنيّة الإسلامية التي وجدت طريقها إلى المتاحف الفرنسية المختلفة.

الفن هنا واحد ومتعدّد، تجريدي وتصويري، وهو في كل حالاته روحاني بامتياز. تنتفي المسافة التي تفصل بين الفنون الكبرى والفنون الصغرى. الصحون والأواني العادية تحف حية ترتقي مقام الأنصاب واللوحات. يُترجم الفن الإسلامي عقيدة التوحيد إلى لغة بصريّة متكاملة، لغة دخلت شتّى مظاهر الحياة بوجوهها الدينية والدنيوية، حتى وجدت طريقها إلى الحرف والصناعات، وانطبعت على النحاسيات والخزفيات والسجاد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها