الخميس 2021/10/21

آخر تحديث: 13:01 (بيروت)

"دايزيز": عن الاسراف في زمن الحرمان

الخميس 2021/10/21
increase حجم الخط decrease
"كل شيء في هذا العالم يفسَد،" تقول إحدى الفتاتين اليافعتين للأخرى، ثم يشرق وجهها حين تصل الى إدراك ما. "أتعلمين أمراً؟ بما أن كل شيء فاسد، فسنكون فاسدتين نحن أيضاً". وتنطلق بطلتا فيلم Daisies، للمخرجة التشيكية فيرا شيتلوفا، في رحلةٍ من العبث والحماقات التي لا غاية لها أو مغزى سوى إشباع شهيتهما المفرطة للطعام والفوضى في ظلّ دولة النظام وترشيد الاستهلاك. كان ذلك في تشيكوسلوفاكيا الشيوعية العام 1966، أي في عالم آخر ودولة بائدة سعت الى ضبط الرغبات وتقنيها. أما اليوم وقد استُبدل هذا العالم بنقيضه الذي لا يكتفي بإجازة الإفراط فحسب، بل يحضّ عليه، تبدو المفارقات التي صوّرها الفيلم قبل أكثر من نصف قرن جديرة بالمراجعة في زمن النهم والحرمان على حدّ سواء.

فلسفة بقالب هزلي
تصف شيتيلوفا عملها بأنه "فيلم فلسفي على شكل مهزلة". فهو يطرح أسئلة عن الحداثة والأخلاق والاستهلاك وعلاقات القوة التي تحكمها توتاليتارية شيوعية ومجتمع بطريركي. ورغم رفض المخرجة تصنيفها كنسوية، الا أن فيلهما ما زال يوصف حتى اليوم بأنه "اكثر الأفلام نسويةً على الاطلاق". في افتتاحيته، تظهر الفتاتان، وكلاهما تحملان اسم "ماري" بالمناسبة، في اشارة الى الاستخاف الذي تعامل به النساء والى عدم امتلاكهن لأسمائهن وأقدارهن، كدُمى تحركها خيوط خفية. تجسد الفتاتان نقيض المرأة السوفياتية المثالية، تلك التي تعمل بلا كلل أو ملل وتمتثل لأصول اللياقات الاجتماعية. فهما شابتان كسولتان، تأبيان المشاركة في تشغيل عجلة الانتاج أو بناء الأسرة الصالحة. تمتنعان عن العمل وتقضيان أيامهما بالتشمس والثمالة واقامة المكائد للحصول على وجبة مجانية أو بعض المرح. تأكلان بنهم وإفراط، ولا تقيمان اعتباراً لنظرات الاشمئزاز التي يرمقهما بها الرجال، وتسرقان إذا برزت الحاجة لذلك. ترقصان وتتأرجحان على الثريات حيث لا ينبغي عليهما فعل ذلك، وتتحولان مصدر إزعاج للحضور الراقي.


يبحث الفيلم أيضاً في بعض الثيمات الوجودية، كأن تطرح احدى البطلتين سؤال "ما الدليل على وجودكِ؟" فتجيبها الأخرى "أنتِ". لكن في انسلاخهما عن المجتمع وتفلتهما من قوانينه- كالعمل والتسجيل الرسمي- تشعران أنهما خفيتان، لا أحد يلحظهما وكأنهما قد "تبخرتا". الدليل الوحيد على وجودهما الماديّ هو ما يخلفانه من خرابٍ خلفها. الى جانب البعد التدميري، يتخذ سلوكهما بُعداً عدمياً ينتهي دائماً إلى الاقرار بأنه ليس هناك ما يهم. ولذلك تعيشان حياتهما كسلسلة من الهزليات لكنهما ترفضان المشاركة في المهزلة الكبرى، مهزلة الحب والعمل.

يستعرض الفيلم الأطعمة على أنواعها في مختلف مراحل نضجها وفسادها، مصوراً الانهيار البطيء الذي مرّ به المجتمع التشيكي في حينها. لا تجد "الماريتان" جدوى من مجاراة هذا السقوط في بطئه، فتسابقانه لبلوغ القاع، على اعتبار أن لا داعي لإطالة المعاناة أو التنكر لها. وانطلاقاً من ادراكهما بأن الجمال والشباب، لا سيما بالنسبة للنساء، زائلان أيضاً، تسعيان الى الاستفادة منهما قدر الإمكان طالما لا يزال ذلك ممكناً. في إهدارهما لكميات ضخمة من الطعام، تسخر البطلتان من المجتمع البرجوازي الذي يفرط في الاستهلاك، ومن النظام الشيوعي الذي يضع شروطاً وقيوداً على هذا الاستهلاك. لكن، وعلى غرار احتجاجهما على أحكام المجتمع البطريركي، فإن سخريتهما من أسلوب الحياة البرجوازي، لا تعني أنهما لن تحاولا استغلاله والاستفادة منه، من دون الرضوخ تماماً الى شروط.

الإسراف والامتناع
في تحدٍ لواقعية السينما السوفياتية، يزخر فيلم فيرا شيتلوفا- وهي واحدة من مخرِجات الموجة التشيكية الجديدة- بالرمزية والسوريالية البصرية، خصوصاً تلك التي تجمع بين الطعام والجنس. تشير بعض الرموز الى جنة عدن، كالشجرة التي تظهر في أول مشاهد الفيلم، وهي إستعارة لخطيئة حواء الأصلية وتمرّدها على الرب. كما يتكرر ظهور المقصّ الذي تستخدمه الشابتان لتقطيع أصناف من الطعام تحمل شكلاً قضيبياً.

الطعام والجنس مرتبطان منذ اللحظة الأولى، الا أن سلوك الفتاتين ازاءهما متناقض الى أبعد حدّ. هما تطلبان دائماً المزيد من الطعام لكنهما ترفضان "تقديم" الجنس في المقابل، أو حتى من دون مقابل. تقومان يومياً بالمقلب نفسه، تستدرجان الرجال الأكبر سناً لدعوتهما الى العشاء، فتطلبان شتى أنواع الأطباق وأغلاها ثمناً. تأكلان أكثر من حاجتهما بكثير، وبسرعة ونهم قياسيين، تتقصدان اصابة الرجل الذي دعاهما بالقرف، غير أن الأخير يغض النظر بانتظار ساعة مغادرة المطعم والعودة الى المنزل برفقة امرأة شابة. لكن خديعة الفتاتين لا تنتهي هنا، اذ تمتنعان في نهاية المطاف عن الوفاء بالتزاماتهما تجاه هذه المقايضة (الطعام/المال مقابل الجنس) بشيء من المكر والخبث.

تحيط الشابتان نفسيهما بكل ما يرمز الى الجنس لكنهما تمتنعان عنه، وكأنهما تسعيان الى الحفاظ على "فانتازمية" رغبتهما، تلك التي تبقى في اطار التصورات الذهنية من دون ترجمة حسية خارج حدود الذات. لا يخلو هذا السلوك من نكوص طفولي ونرجسية مردّها الى العجز عن ادراك الآخر، لكن في حالتهما هي قرار واع وإرادي بتجاهل وجود الآخر والاكتفاء بذاتيتهما. في هذا "الفانتازم" الانتقامي المطول الذي يجسّده فيلم "دايزيز"، تستمدّ الشابتان لذتهما من التخريب والتدمير واشعال الحرائق وتقطيع الأشياء، في محاولة تمرد نسوي على قوانين اللذة التي تخطها الجنسانية الذكرية.

أما السؤال الذي يتبادر الى ذهن المشاهد فهو عن طبيعة هذا العمل: هل هذه كوميديا أم تراجيديا؟ إنه سؤال ننتظر تبلور اجابته في ختام الفيلم، الا أنها اجابة لا نحصل عليها قط مع قيام المخرجة بـ"مكيدتها" الأخيرة عبر تقديم نهايتين محتملتين للفيلم، تحصل الشابتان في إحداهما على الخلاص، فيما تقودهما الأخرى الى هلاكهما النهائي. "هل هناك من طريقة لإصلاح ما تم تدميره؟" تتساءلان، لكن الاجابتين المحتملتين لا تخلوان من عناصر الكوميديا السوداء؛ فحتى وإن كانت لديهما فرصة للنجاة من عبثيتهما الداخلية، فهذه النجاة ليست سوى استسلام لعبثية المجتمع وفساده المقونن والمنظم.

إن التماهي الفردي مع هذا الفساد هو الآلية الدفاعية التي تختارها بطلتا فيلم "دايزيز" للفرار من وضعية الضحية إلى وضعية المذنب. يذكّر هذا السلوك بما يعيشه مجتمعنا اليوم، هو الذي عرف فساد الدولة والمؤسسات وذاق مرّه على مدى عقود، لكن بدلاً من مقاومته استدخله وجعله أسلوباً لحياته. أما الجوع، فهو المحفّز الأساس للنهم، النهم الذي لا يعرف حدوداً، فينتهي الى استهلاك الذات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها