الخميس 2021/01/28

آخر تحديث: 13:24 (بيروت)

يوميات سورية: كبتاغون وحشيش وغارات إسرائيلية

الخميس 2021/01/28
يوميات سورية: كبتاغون وحشيش وغارات إسرائيلية
الواقع السوري(انترنت)
increase حجم الخط decrease
لا تبدأ الحياة في سوريا من حربها. منذ زمن طويل باتت الحرب أمراً اعتياديّاً. حتى الصباح باتَ يحمل فنجان القهوة مع خبر ضرب إسرائيل لموقعٍ سوريّ ما. لا تبدو سوريا موحدة أو مهمّة في يوميات السوريين أبداً. مراحل الإحباط يمكن ملاحظتها من السياق اليومي لحياة الجميع؛ فالحقيقة النفسيّة السلوكيّة التي يعيشها ملايين السوريين لا تحتاج إلى دراسة ميدانيّة ترصد دراما تحركاتهم وأفعالهم، وما يحاول النظام زرعه ليبدو أسطوريّاً هائل المعنى، يفقد أثره ولا يظهر أصلاً في الحياة الواقعيّة للسوريين؛ فيبدو كاتب الخطاب الأسديّ الدراميّ عندئذٍ، محض أعمى أصم؛  لأنّ السوريين  ما عادوا مهتمين بالتوّحد ضدّ عدو خارجي.

العدو الخارجي أيضاً، لم يعد شأناً عاماً. في ضراوة الحياة ويومياتها اختفت الدولة، والكرامة المُختلَقة للنظام الأسديّ، وإذا كان الطابع الإنكاريّ الطفوليّ للهزيمة -على طريقة الطفل الذي يعرف أن بابا نويل كذبة- قد سرى لسنوات  طويلة، فإنّ السوريين اليوم يملكون واقعاً غير احتماليّ أبداً، واقع وحيد يحتجون فيه وينكرون ذاتهم وكيانهم وأيّ قيمة معنويّة لوجودهم. كل صباح يأتي بضربة إسرائيليّة، يستقبله السوريّون باستهزاءٍ بالنظام..."متى سنردّ على إسرائيل؟".

من يتخيل السوريّ وفقاً لثرثرة بثينة شعبان ورأس النظام والميديا التي ترافقهما، يتخيل أنّ السوريين ينتعلون حذاء العسكر برؤوسهم، أو حتى يحملون شعارات المليشيا الإيرانيّة. لكن ما يبدو مقاوماً وآثراً في المعنى العسكري لم يعد يظهر في التحرّك الدراميّ أو التعبير الرمزي للسوريين. حذاء العسكري بات نقمة، ومدار سخرية هائلة، والمقاومة صارت حشيشاً ومخدِّرات ومتاجرة بالكبتاغون. وحينما تبدو قوية وعنيفة، تظهر بوصفها تشبيحاً لقيادة أقذر مليشيات التهريب. هذه نقطة مهمّة توحّد فيها السوريون جميعاً. فالعلويون موالو النظام ما عادوا يقيمون وزناً لسيد المقاومة، وما ربحه حزب الله في الحرب من قيمة وسطوة، فقده سريعاً بسبب أفعال وتجارة أفراده بكل أنواع التجارة، في مجتمع سوريّ أكثر محافظة وأقل اتصالاً بفلاحي الحشيش وصنّاعه. هنا يقظة أميل دوركهايم التي لا يعرفها حزب الله: "نحن لا نستهجن فعلاً لأنه إجرامي، لكنه إجرامي لأننا نستهجنه". فالمقاومة بحسب الكثير من السوريين، تبدو جريمة، لأنها تحمل حشيشاً بكلتا يديها، ويعاون المقاومة أبناء عائلة الأسد الأكثر دناءة. تلك المقاومة التي اتخذت من معقل العلويين –دون غيرهم- وكراً لها..

السرد اليومي للسوريّ مليء بالذلّ، ويتأرجح بين قهر الذات والسخرية منها، وبين انكماش الأنا من خفايا الجوع في البيوت والألم الهائل الذي يعيشه السوريون لتأمين حياتهم، أو تأمين حتى ضرورات الضوء والإنارة لرؤية بعضهم. تزداد صفوف المحتاجين، بعد انسحاب المنظّمات العالميّة من مبادرات دعم الشعب السوريّ. أمّا سوريّا التي ابتلعتها الحرب -لكنّها انتصرت بفم النظام- فلا تظهر أبداً، انسحاب المنظمات جعل سوريا المجتمع من دون أي دعم مؤسساتي، مع افتقاد الدولة لكل شيء، رغم انتصارها المزعوم، ورغبتها المَرَضية في رفع المستوى الدراميّ لمواطنيها.

ظهور حاجات الأكثر فقراً، واختفاء الطبقة المتوسطة بات مرعباً. الأكثر ضعفاً تُخلق من أجلهم المجرّدات/المفاهيم النظريّة/المفاهيم المجرّدة كالدولة والمنظمات والمؤسسات لتعويضهم بعدل. لا يملك السوريون ثمن حفاضات أطفالهم أو عجَزَتهم. يتبادل السوريون الخرق والأقمشة البالية لتبطين ثياب أولادهم، بدلاً من الحفاضات الجاهزة، إنّه الالتصاق الحتمي بالفضلات الذي عاد إلى منشئهِ الطفوليّ وحالته الأولى. يبدو الطعام حلماً، ما لم نتحدث عن فساد المواد الغذائية، واستيراد مؤسسات الدولة أقذر المواد التموينية وأسوأ أنواعها.

هناك صراع خفي وغريب ويظهر بصورة دراميّة، وبتفريغ سلوكيّ دراميّ. فإمّا الدفاع عن النفس بالانكماش، كآلية دفاعيّة تبعده عن أيّ سلوك قد يعدّه النظام جريمة ليسوّغ بها معاقبة المواطن الفقير المعدم، أو النكوص والانكسار والإحباط السلبي، الذي لا يعدّ إحباطاً عادياً؛ بل إنّه إحباط ذو شق اضطهاديّ، تتبعهُ الجريمة كتغيير وتفريغ وتعبير في وجه القهر والفقر والذل. الفقر وانعدام الأمن الغذائي وفرص الحياة مع فقدان الليرة السورية مئات أضعاف قيمتها، ما جعل السوريين مضطربين، وقد بدا ذلك واضحاً عليهم، عند هروبهم من الاضطراب النفسي من خلال الارتداد على الذات، ومحاولة إزاحة النظام من الواجهة بكونه المُسبّب الحقيقي لما وصلوا إليه. درجات الخوف المُحققة المتراكمة لم تعد تعني الناس، النظام لم يعد مخيفاً لأحد، وليست القوة التي اكتسبها السوريّ ما تجعله يوجه نقده للنظام، بل الإحباط والاضطهاد الذي يجعل مسوغات الجريمة منطقيّة.

تزداد البشاعة وآلية التقهقر المنظمة نحو الدناءة، صور الإهانة التي تجسّدها صفوف الانتظار، الاستعداد للعنف الجماعي، فَقدُ القيمة وغاية الحياة، كلّ ذلك يرسم بُعداً عبودياً مؤقتاً، لكن عنفاً ما يلوح في الأفق بحثاً عن مقاومة ما لآلة العنف وأثر اضطهادها المؤذي والمؤثر.

الأكثر بياناً كان تراكم الأرقام التي يسمعونها عن ذلهم وهوانهم أمام عدو كان يُخيَّل إليهم أنهم يتوحدون ضده كإسرائيل، وسخرية الردّ السوريّ التي باتت تُفضَح عبر صفحات التواصل في الداخل السوري، رغم اعتقال النظام لأيّ شخص يكتب كلمة واحدة عن العدو الإسرائيلي. حتى الله يُمكن انتقاده عبر صفحات التواصل، أما إسرائيل فيمنع ذكرها. السوريون اليوم يستهزئون بالنظام بلا أي خوف. كيف تستطيع سوريا -التي لا تملك رصيفاً أو شارعاً لائقاً، أو حتى قنوات مياه شرب أو كهرباء- أن تردّ على دولةٍ مجاورة لها، تملك أكبر مجمعات التقانة في العالم وأهمها. اختفاء النظام خطابياً هو الشكل الأمثل الذي يحققه النظام اليوم، فهو لا يقمع، بل يكتفي بمراكمة اضطهاده المؤثر الذي تلا الأذية والخسارة التي ألحقها بالسوريين. صمت رأس النظام ترافق مع تصريحات إعلامين ونواب كبثينة شعبان وغيرها، عن دلالات الفقر وأهميته في صنع الانتصار، دلالات الانتصار تلك، التي كانت نفاقاً يمارسونه في وجه الدراما اليومية التي فرضت نفسها بصورة مرعبة في حياة السوريين، لينكفئ السوريّ على ذاته بعيداً من الشارع والتصريحات الكاذبة، مكتفياً بذله وفقره.

الردّ النفسي يتعاظم بظهور العري السوريّ أكثر فأكثر، خاصة أنّ العلويين فقدوا تقديسهم لصورة بشار الأسد أبداً، لهذه الجملة دلالة حيوية؛ فقد خسرَ النظام آلية الهيمنة الاجتماعيّة كُلياً. كان لظهور اللاوعي الأسدي للعائلة أثرٌ في هذا، في ظل سيطرة أبناء العائلة على كل متاجر ومطاعم ومرافق السياحة في الساحل، في مقابل أنّ الاستخدام الوظيفي للعلويين في أيديولوجيا الحرب قد انتهى، ليختفي بذلك أثر النظام فيهم بأي قيمة يحملها. لم يستطع النظام كبت حقيقته، وما يعاينه اليوم أمام الجميع، يُسمّى تعريةً قسريّة لقسوته ولامبالاته وزيف كذبه. مع التأمّل الطويل يحمل السوريون ثورة جديدة ذات منشأ طبقي واعٍ. حجم الإهانة العامة التي لاقوها من المحتلين والنظام شكلت لديهم وعياً جديداً. ما نعيشه اليوم، إن وضعنا كاميرا عامة تراقب مظهر السوريين، يُعدُّ إحباطاً مرضيّاً وحطاماً في تشكل الأجساد وبنيتها ولباسها وجوعها. سوريا بلد خالٍ اليوم، لكنها تكفي لتخيلات جد مرضية لرمزية القهر وتجسيدِ العبوديّة ذات المنشأ الاضطهادي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها