في الواقع، التحاق السوسيولوجيا بذاك المعمل هو أمر ضروري للغاية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، حين بدأ الراحل برنار ستيغلر برفع صوته حيال ما سماه ذات يوم تصفية الانتباه، كان يتكلم حول موضوع بعينه، أي الأطفال الذي يمضون ساعات كثيرة من أوقاتهم أمام شاشات الآيباد للعب أو لمشاهدة فيديوهات. في هذا السياق، يصح الاعتقاد بأن الوجه الاجتماعي للمعرفة حول الانتباه كان، وباستمرار، هنا، أياً كان، وباستمرار، ظرف انتاجها. على هذا الأساس، للسوسيولوجيا مهمة أساسية، وهي ترسيخ هذا الوجه، وجعله من ركائز معرفة الانتباه، ومن محركاته. وهذا، ما يأخذ برونر جزءاً صغيراً منه على عاتقه قبل أن يعود إلى المدونة المعهودة لمعرفة الانتباه، فيبدو انه مقلع عن "سَسَلجتها". تماماً، كمعالجته للانفجار المعلوماتي عبر الإشارة الى تاريخه، الى كيفيات حصوله، بمعنى كيفيات خلق المعلومات وصرفها داخل المجتمعات. وذلك، قبل أن يخلص الى التشديد على كونها، وفي الغالب منها، معلومات زائدة عليها، أو بالأحرى على صلاتها. وفي هذا السياق، يردد خلاصة تلك المدونة، اي أن المعلومات، كثرتها، تجعل من الانتباه ضحيتها نوعاً ما، بحيث تشده، تستنزفه، لكنها، في المقابل، لا تحمله الى شيء، بحيث أنه لا طائل منها. في الحقيقة، وبعيداً من ترداد هذه الخلاصة، يمكن الاعتقاد أن طائل المعلومات الوحيد هو فعلها حيال الانتباه، يعني تدميرها له، كما لو أن الانتباه عدوها. ووضعهما هذا بمثابة سابقة. فالمعلومة التي كانت تريد أن تجذب الانتباه، التي كانت تذهب اليه، يبدو أنها ماتت، وولد مطرحها معلومة ثانية، هي التي تريد أن تحطمه. الى اين تؤدي هذه السابقة؟
يتحدث برونر عن "انخساف" الحضارة. عبارة مبالغ فيها بلا شك، لكنها جميلة من ناحية تصور أن عطب الانتباه يحمل اليها، وهذا، لسبب بسيط أنه عالق في المعلومات من حوله، وأمامه، ومن كل جوانبه. فهذا العطب يعادل، بدايةً، انعدام التركيز، ثم توقيف الاكتساب، بالإضافة الى تغيير الوظيفية العيونية (من عيون)، عدا عن الابعاد من ربط المعلومة بالطائل منها، ولاحقاً، توقيف التفكير بما هو، وفي الأساس، قدرة على الانتباه. كل هذا، يؤدي الى انخساف الحضارة، الذي يساوي تراجعها الى الخلف. بالتأكيد، كل المنظور هنا أبوكاليبسي.
وصحيح أن برونر يحاول التخفيف منه بالقول أنه لا يتكلم عن كارثة، أو عن قيامة، بل عن الـ"أبوكاليبسيس" بالمعنى اليوناني القديم، أي الاقدام على اماطة اللثام-ربما، المكاشفة عربياً- لكن التخفيف هذا لا يؤدي دوره. إذ أنه يقدم برونر كأنه كشاف لعظمة موضوع، لا تكف معرفة الانتباه عن كشفه، أي يقدم برونر على ما هو ليس عليه أصلاً. فالمقلب الكارثي لـ"أبوكاليبس الاكتساب" جلي، وهو، وفي اثره، يبدي أن نهاية الانتباه هي نفسها نهاية العالم.
(*) Gérald Bronner, Apocalypse cognitive, PUF
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها