الثلاثاء 2020/07/07

آخر تحديث: 14:40 (بيروت)

اللا-اكتراث الآن

الثلاثاء 2020/07/07
اللا-اكتراث الآن
انتحار المواطن علي الهق في الحمراء وشباب الحراك مواكبين لنقل الجثمان (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease
ثمة معادلة حسابية كاريكاتورية تنتشر منذ 17 أكتوبر اللبناني، من الممكن تلخيصها على الشكل التالي: "الكارثة=الثورة". فالقائلون بها يجدون أن ما يصفونه بالـ"كارثة" سيؤدي إلى دفع ما يسمونه "الفقراء"، أي الطبقات الشعبية، إلى "الثورة" على وضعهم. لكن، وبما أن المعادلة هذه لا تتحقق "على الأرض" كما تفعل في رؤوس أصحابها، فهي سرعان ما تحملهم إلى التفتيش عن أسباب عطالتها.

يستفهمون: "لماذا لا يفعل الفقراء شيئاً ما؟"، قبل أن ينطلقوا في عصفهم الذهني، مرددين عدداً من إجاباتهم المعهودة، التي تفيد بأن "الفقراء" مسلوبو الإرادة والوعي. فـ"السلطة السياسية" تلهيهم بـ"الطائفية"، والتلفزيون يزيف واقعهم، ويغرّبهم عنه، كما أن تمضيتهم الوقت في مواقع التواصل الاجتماعي تجعلهم عرضة لأثرها، وهم "لا يشتغلون على ذاتهم"... كل هذا، يجعلهم بعيدين من "فعل شيء ما"، بل يتركهم في "امتثالهم" الذي لا يتوانى عن التفاقم يوماً بعد يوم.

إنها رواية عن "الفقراء"، بما هم رهط من الخامدين المغفلين، الذين "لا يعرفون كيف يحققون مصلحتهم" أو الذين "لا يعرفون مصلحتهم" أساساً. ولهذا، يمضي مروجو هذه الرواية إلى التدخل فيها من أجل قلب الخامدين والمغفلين إلى فاعلين وأذكياء. بعضهم، وفي سياق الشقلبة، يكشف قوام روايته، أي الاحتقار، فيقرر أن يصدم "الفقراء" إياهم لكي "يستيقظوا"، فيصيح من وقت الى ثان بـ"يا شعب لبناني يا بجم"، أو "الحق عليكم، مش إنتوا يلي انتخبتوهم، هيا حاسبوهم". أما بعضهم الثاني، فيتستر على قوام روايته، ماضياً إلى "توعيتهم"، أو ذاهباً إلى "التحدث بإسمهم" أو "التحدث معهم" عن أوجاعهم، بمزيج من الغضب والتعاسة والتذنب والبكاء، لكي يثبت لهم أنه يشعر بهم، قبل أن يخلص إلى الأمر نفسه، أي دعوتهم الى "الثورة". فدوماً، يحتاج "الفقراء"، وفي حسبان مروجي الرواية، إلى حضهم على "الثورة"، إلى إنهاء الحديث معهم بجُملٍ تكون بمثابة فاتحات مستقبل آخر لهم. إذ أنهم، ومن دون هذه الفاتحات، يبقون بعيدين من "مصلحتهم"، ويواصلون "امتثالهم".

لكن "الفقراء" لا يكترثون لكل هذه الدعوات، لا يكترثون لحثهم على "التغيير". على عكس المنتظر من قبلهم، يتلفون الرواية التي يُوضعون فيها، يطيحون معانيها، ليتركوها تدور حول نفسها، قبل أن تنطفئ وتتبدد. فبواسطة هذا اللا-اكتراث، يواجه "الفقراء" مروّجي رواية "مساعدتهم"، مثلما أنهم يواجهون هذه "المساعدة" لأنها تنطوي على احتقارهم، لأنها تستند إلى فكرة أنهم خامدون ومغفلون. فعلياً، في حال لم يُقدِم "الفقراء" على اللا-اكتراث، يعني في حال اكترثوا إلى مساعي قلبهم فاعلين وأذكياء، فهم يثبتون تلك الرواية، أو بالأحرى يقعون في فخ مروجيها. ولهذا بالتحديد، ما أن تصل اليهم حتى يضعوا حداً لها، كأنها لم تكن.

فاللا-اكتراث هو رد "الفقراء" على كل من يريد "شرح" وضعهم لهم، ومن يريدهم أن يروا "الكارثة"، ومن يريد دفعهم الى "الثورة"، أي من يريدهم أن يكونوا كما يبتغيهم: مغفلين وخامدين، وبفعل أثره، أثر خطبته وسرده وحديثه وافكاره، ينقلبون فاعلين واذكياء. اللا-اكتراث حالياً هو سلاح من أسلحة "الفقراء". ولهذا، يحاول الخائفون منه سحبه منهم، واستبداله بهوس "أن يفعلوا شيئاً" في إثر دعوتهم الى ذلك، هوس "أن يفعلوا شيئاً" لكي يؤكدوا للخائفين منهم أنهم يتسمون بـ"الإرادة والوعي". هناك أمران يتعرض لهما "الفقراء" الآن: أمر حرب النظام عليهم بعد انفجاره من داخله وانهياره بحقهم، بحق حيواتهم حرفياً، وفي الوقت نفسه، أمر احتقارهم من قبل الذين يريد منهم أن "يفعلوا شيئاً ما"، وحين لا يفعلون، يذهب الى شتمهم، أو وعظهم، وبينهما عرض عجزه عليهم.

لقد بدا لانعتاق علي الهق، كما لكل انعتاق، بُعدٌ ساخر. إذ وضع على العمل الذي مارسه، إذا صح التعبير، كلمات وشعارات لا تضاهي انعتاقه البتة، بل إنها، وفي إزائه، بدت ضئيلة المعنى أو من دونه. بهذا، برزت كضرب من التهكم على مَن يريدون من "الفقراء"، حتى حين يتعرضون للاغتيال فيقاومونه بترك الحياة بأكملها، حتى في هذه الحال، أن "يهيئوا الأرض" لـ"فعل شيء ما"، أن يكونوا "شعلة ثورة". أعطى الهق هؤلاء ما ينشدون، سجلّه العدلي، والعَلَم، و"لبنان حر مستقل"، و"أنا مش كافر"، أعطاهم كل المشهد الذين يطلبونه، وأخذ حريته وحياته، ضاحكاً عليهم، غير مكترث بهم. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها