السبت 2020/05/16

آخر تحديث: 13:52 (بيروت)

كأننا في فيلم.. لأننا سلفاً داخله

السبت 2020/05/16
كأننا في فيلم.. لأننا سلفاً داخله
من فيلم contagion
increase حجم الخط decrease
كيف من الممكن أن نقرأ تلك العبارة التي راجت لوصف الوضع الذي انتجه فيروس كورونا، أي "كأننا في فيلم"؟

ربما، بادئ الأمر، تحيل هذه العبارة إلى كون "الفيلم"، الذي نصف به وضعنا حالياً، هو بمثابة شاشة، نطل منها على واقعنا. والشاشة، في هذا السياق، لا تعني السينما، أو التلفزيون، لا هي الكبيرة، ولا الصغيرة، إنما هي، وبحسبما عرف ليونيل روفيل الأدب في كتابه "مكر الموت" (فيردييه، 2019)، بمثابة إطار تخييلي: "يحمي من جلافة الواقع، لكن، يهبه معنى وأشكالاً، ما يسمح بإحاطته بطريقة أفضل". فحين نصف وضعنا بالفيلم، فلأننا في الأول نرتطم بواقع لا يمكننا أن نتحمله، كما أننا، وفي الثاني، نجد الإطار الذي يقينا منه. وهذا الإطار، نريده، ولكي يلائم واقعنا، غرائبياً، بحيث أن الفيلم الذي نشبه وضعنا به هو خليط من الـsci-fi والرعب، أو أبوكاليبتي على العموم.

لكن إرجاع وضعنا، ولكي نستوعبه، إلى فيلم، فهذا، وبحد ذاته، يشير إلى أمر معين، وهو سلطة هذا الفيلم، ليس على وضعنا فحسب، إنما على رؤيتنا أيضاً. فالفيلم، في هذه الجهة، صار المرجع، الذي نحيل إليه الوضع لكي نكون على دراية به، ولكي نطل عليه. بالتالي، المرجع هو الذي يحدد، وتماماً، كالإطار، علاقتنا بالوضع، وكيفية تلقينا له. فمن دون هذا المرجع، نصير بلا أي علاقة مع هذا الوضع، مثلما أننا لا نتلقاه، بل إنه، وإن لم يقفز إلينا، إلى عيوننا، نستمر في الإعتقاد بأنه ليس موجوداً. فلكي يبلغ وجوده، عليه أن يغدو في ذلك الإطار، أو أن يغدو، وعلى قول روفيل مرة أخرى، داخل الشاشة-التخييل.

لا بد في هذا المطاف من الملاحظة أن الإطار إياه، أن ذلك المرجع ما عاد يمثل وضعنا، بمعنى أن هناك وضعنا، وبالتوازي معه هناك تمثيله، إنما هو ينتجه لنا، كمحتمل، وكمدرك، وكقابل للإستيعاب. بطريقة أخرى، هو يعرضه لنا خالياً من واقعه، كفيلم على شاشة، وكفيلم على شاشة فقط: ينتهي مع الخاتمة. هكذا، يصير متاحاً الإنتهاء من وضع ما، بتحويله إلى الإطار، إلى الشاشة-التخييل، بحيث، وما أن تنطفئ، حتى يتلاشى، ولا يعود له أي أثر. وهكذا، لا يجلس أمام هذه الشاشة مشاهدٌ كان قد ارتطم بوضعه، ثم مضى إلى تمثيله مثبتاً إياه لتخطيه-هذه النسخة الميتة منه التي كانت تتيح له أن يتنقل برشاقة بين المشاهدة والتمثيل -بل إنه مشاهد لا يرتطم بأي وضع، إذ يتلقى تمثيله الخالي منه، تمثيله الذي يبغيه دائراً على ذاته.
إنه تلقٍّ إيجابي بامتياز، من بعده يبقى ذلك المُشاهد متعلقاً به، منتظراً أن يكرره مرة تلو المرة. إنه التلقي-التسلية، الذي لا يشوبه أي توقف على وضعٍ سوى عبر تلك الشاشة، وفي تلك الشاشة، التي تمثله لكي تنفيه. إنه التلقي-التسلية الذي لا يتوقف على أي وضع أمامه، الذي لا يتوقف البتة.

بهذا، الفيلم، الشاشة، الإطار، باعتباره مرجعاً، يجعلنا نشاهد بإفراط، يجعلنا نتفرج على موضوع يقدمه لنا بنفيه، أي أنه لا يجعلنا نراه. فهو المرجع، الذي يمحي موضوعه، يمتصه، ولا يعود بفعله أمامنا.

كيف نقرأ "كأننا في فيلم" إذاً؟ قد يصح قراءتها بهذا الشكل: نبغي أن نكون في فيلم، بحيث أننا عندها يزول وضعنا الذي خلفه كورونا، نسيطر عليه، ونلغيه. لكن من أين لنا هذا الإعتقاد بكون الفيلم هو خلاصنا؟

كتب جيل دولوز في ثمانينات القرن الماضي أننا في إثر حداثتنا تبدلت صلتنا بعالمنا، بحيث ما عدنا نؤمن به، ما عدنا نؤمن بواقعاته، بحيث صرنا نتعقله كأنه فيلم. لقد جعلت حداثتنا هذا العالم، عالمنا، مجرد فيلم، وفيلم سيء تحديداً.
طبعاً، من القرن الماضي حتى اليوم، أكثر عالمنا من تأفلمه، وصار العيش فيه، العيش الذي يطابق معايير برجوازيتنا على وجه الدقة، كالوقوف في وضع بصري وسمعي خالص. لذا، "كأننا في فيلم"، وباعتبارها "نبغي أن نكون في فيلم"، ليست سوى نريد عالمنا ذاك، عالمنا بما هو من إنتاج نظامه، بما هو مسجون به، نريده كما كان قبل أن يتسلل الفيروس إليه، ويلخبطه. فـ"كأننا في فيلم" اي نريد البقاء في الفيلم، الذي عمد الكورونا إلى خلخلة مجرياته، موشكا على تعطيله.

فقد كان هذا الفيروس بمثابة إشارة إلى كون الفيلم قد يقترب من نهايته، مما نظن انه نهايته، وليس من بدايته. وحالياً، تبدو مساعي احتواء اقترابه هذا كأنها ترميم لما حل به، كأنها مواصلة له. فـ"كأننا في فيلم" أيضاً هي إشارة إلى أننا كنا دوماً في الفيلم، وهو حين اصطدم بما ليس متفق على كونه جزء منه، ازداد تمسكنا به، وقلنا اننا لا نريد سواه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها