الإثنين 2020/04/27

آخر تحديث: 14:07 (بيروت)

آحاد نوال عبود طرابلسي

الإثنين 2020/04/27
آحاد نوال عبود طرابلسي
من رسوم نوال طرابلسي
increase حجم الخط decrease
ترغب نوال عبود أن يكون منزلها عامراً بالأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء. وحين تكون هناك مناسبة في بيتها، فإن الحضور لا يقتصر على عدد محدود أو شلة ضيقة، بل إنه يأتي على مقاس الكرم الذي لا مكان فيه لعدد الضيوف وهوياتهم. وتبدو كأنها درست تفاصيل الضيافة في البيوت التي سكنتها قبل كل شيء، وتشي صفات البيت بأنه ليس للسكن فقط، بل للحياة التي يحتل الآخرون مساحة فيها، يتوقف على كرم المرء تحديد مقدارها. وأتحدث هنا عن منزلها ومنزل زوجها الكاتب والسياسي فواز طرابلسي، في الدائرة الثالثة عشرة في باريس، والذي كان كراجاً كبيراً قبل أن تحوله نوال وفواز إلى بيت من الطراز العربي بحديقة كبيرة تستقبل الزائر حين يدلف من الشارع، ونافورة في صحن الدارة المكشوف، والمخصص للجلسات الربيعية والصيفية، حيث الورد الجوري والياسمين. وفي الداخل يستقبلك صالون واسع تم تصميمه ليكون مكاناً للجلوس المريح، وليس للزيارة العابرة التي تنقضي بفنجان من القهوة. صالون يشبه الديوانية، وهذا النمط من الفضاء المؤثث للاستقبال ليس بعيداً من موروث فواز الثقافي المتعدد المرجعيات والمصادر، ومنها الخلفية البدوية. ونفهم الأمر أكثر حين نعرف إن والد فواز خلع عليه هذا الاسم، تيمناً باسم الشيخ فواز الشعلان الذي كانت تربطه به صداقة ومودة.

والشيخ فواز الشعلان هو ابن الشيخ نواف الشعلان شيخ قبيلة الرولة/عنزة ذات الحضور والتأثير في السعودية والبادية السورية، وحتى دمشق الذي أخذ الحي المشهور اسمه من اسم القبيلة. ويروي فواز أن صداقة ربطت والده بالشيخ فواز الشعلان، أحد أكبر وجهاء قبائل البادية العربية. ومن يعاشر فواز طرابلسي جيداً، يتعرف على عناصر في شخصيته ذات جذور بدوية، وربما هذا ما يفسر صلته الخاصة مع اليمن والعراق، وعلاقاته الواسعة والحميمة مع نخب ثقافية وسياسية ذات أصول بدوية من السعودية (عبد الرحمن منيف)، سورية (يوسف زعين)، العراق، واليمن، وسلطنة عمان.

لزمن ليس بالقصير، كنا نذهب مرة أو مرتين في الشهر نمضي ظهيرة الأحد لدى نوال وفواز. وكانت المجموعة مغلقة إلى حد ما: محمود درويش، جوزيف سماحة، وأنا. وكان ينضمّ أحياناً صديق من باريس، مثل سمير قصير، أو زائر من الخارج ممن يهاتفون فواز. وغالباً ما يضفي هؤلاء الضيوف نكهة خاصة على لقاء الأحد. وفي إحدى المرات، كان اللقاء مع المثقف اليمني اللامع، جار الله عمر، الذي أدهش محمود درويش بثقافته الشعرية الحداثية والتراثية.

وهو السياسي المحترف الذي لعب دوراً أساسياً في الحياة السياسية في اليمن منذ الستينات حتى اغتياله على يد حزب الإصلاح في نهاية العام 2002. وللعلم، تولى جارالله وزارة الثقافة في اليمن العام 1993، ودعانا بمعية محمود درويش الذي أحيا أمسيتين شعريتين في صنعاء وعدن في سبتمبر/ايلول 1993. وما كان لجلسات الأحد أن أن تنعقد لولا كرم نوال عبود لأنها فنانة المنزل. وبينما كانت تدور الحورات الرشيقة، كانت نوال تعد أطباقاً على صلة بالفن، وأكثر قرباً إلى الطبيعة، في خلطات مبتكرة للعناصر ذات كيمياء أقرب إلى الشِّعر منها إلى المأكولات المعهودة التي يتم تحضيرها للالتهام فقط. أطباق فيها لون ورائحة وابتكار وصنعة. كل شيء مدروس بمقدار، كما في اللوحة الفنية التي يشكل اللون سر قوتها.

كانت تلك الآحاد ثرية جداً. وحين كانت تنقطع لأسباب خارجة عن إرادة المجموعة، كانت نوال تحرض فواز على استئنافها. واللافت أنها كانت تحفظ كثيراً وقائع اللقاءات السابقة، إلى حد أنها تتدخل أحيانا للتذكير ببعض المعلومات التي جرى المرور عليها. ولا أدري إن كان أحدنا، نحن الثلاثة الأحياء من المجموعة، نوال وفواز وأنا، ما زال يحتفظ بصور وتفاصيل محددة من النقاشات الكثيرة التي جرت حول النافورة في الربيع، أو في الصالون في برد باريس، حول كؤوس النبيذ الذي كان درويش يعرف أصنافه ويتذوقه جيداً. والفترة التي جرت فيها الجلسات امتدت قرابة أربع سنوات قبل الاجتياح العراقي للكويت، وحتى اتفاق أوسلو. وحين أشير إلى هاتين المحطتين فإني استعيد تفاصيل كاملة عن تلك الأوقات المفصلية، التي نقلت المنطقة إلى مرحلة جديدة. وكان درويش في تلك الفترة عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي استقال منها قبل توقيع اتفاق اوسلو في سبتمبر 1993، وذلك بسبب اعتراضه على الاتفاق، والذي سجله في رسالة ما زلت احتفظ بنصها الأصلي بين أوراقي مخطوطة بيده. وكانت اللقاءات مكثفة في نهاية العام 1990 ومطلع 1991، اي في الفترة الحرجة عندما كان العالم يترقب إعلان ساعة الصفر في الحرب على العراق. وقبل تلك الحرب بيومين، شهد صالون البيت أمسية حافلة بالمشاعرية. كان هناك جمع كبير واحتدم النقاش بين من يؤيد صدام حسين، وبين من يرى في اجتياح الكويت مغامرة حمقاء ستكون لها عواقب وخيمة على العالم العربي. ولم يكن الكلام كله للسياسة، بل للشعر أيضاً. ويومها تأثر صديقنا الكاتب المغربي الباهي محمد كثيراً، فألقى قصيدة عمر بن كلثوم "ألا لا يجهلن أحد علينا"، وكانت النتيجة انفجار في الزائدة فنقلناه للمستشفى. وفي توقيت غريب وقعت الحرب في الفجر، وحين صحا من التخدير بعد الظهيرة، أخبرته بما حصل. وعلى الفور طلب الخروج من المشفى، لأنه لم يحتمل البقاء هناك والحرب تدور. أراد أن يرجع إلى بيته حيث سيتفاعل معها من مسافة أقرب.

في حوار لاحق مع درويش، استعدنا هذه المرحلة بعدما انتقل فواز طرابلسي من باريس إلى بيروت. وقبل انتقال درويش إلى عمان، استعدنا شريط المرحلة الباريسية الطويلة التي تعد أغنى فترة شعرية في سجل درويش. واتفقنا على أن من بين المحطات الحافلة، جلسات الأحد في منزل نوال وفواز، وتبادلنا الندم لأننا لم نسجل تلك الحوارات التي كانت على صلة بما يحدث من تغيرات كبيرة في العالم العربي وفلسطين والعالم ككل. كانت المرحلة انتقالية سياسياً وثقافياً، وبعدها حصل الانهيار الذي استمر حتى اليوم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها