الإثنين 2020/03/30

آخر تحديث: 12:33 (بيروت)

العالم وقد أوشك على النهاية!

الإثنين 2020/03/30
العالم وقد أوشك على النهاية!
نهاية
increase حجم الخط decrease
يبدو العالم منهارًا وكأنه يوشك على النهاية، وأنا -شعلة نار- لا أكترث بتداعيه؛ أعمل كأنما تظلله غيمة ضخمة أو قوس قزح، وليس الوباء القاتل!

عندما طلب مني أحد الأصدقاء شهادة ترصد شعوري باللحظة الآنية، ضمن ملف يعده في صحيفته كوثيقة على الوضع الراهن، أبديت حماسًا في البداية، لما احتوت عليه الدعوة من أمل؛ سيمر ذلك كله ويبقى الملف لنستعيده ونرى مدى خوفنا وامتلائنا بالأمل، لكنني لم أفِ بوعدي، فلم أمتلك أياً منهما: الخوف أو الأمل. هل عقار تخفيف القلق الذي أتناوله منذ ما قبل الجائحة هو السبب؟ ربما، لكنني لا أعرف حقيقة، لم لا تنتابني كل تلك المشاعر المتضاربة التي تشغل جميع من حولي؛ منذ دخول الأمور مرحلة الجد في مصر، وأمي تحمل ابني الوليد، تخبره، أو تعاتب حظها في الأغلب، أنها ربما لن تعيش لتراه ينمو، تقيس طوله كل يوم، وتبحث في ثغره عن أسنان نبتت، وتتساءل متى يمكنها تغذيته أشياء أخرى غير صدر أمه، وكأنها تريد اقتناص كل شيء من الزمن قبل أن يدق الوباء بيتنا.

في رسالة "إغاثة الأمة في كشف الغمة"، يحتج المقريزي (766هـ – 845هـ) على شعور الناس المتفاقم بالأزمة الاقتصادية التي ضربت مصر في العام 808هـ، يقول إن "المسموع الماضي لا يكون أبدًا موقعه من القلوب موقع الموجود الحاضر في شيء من الأشياء، وإن كان الماضي كبيرًا والحاضر صغيرًا؛ لأن القليل من المشاهدة أكثر من الكثير بالسماع"، ثم يبدأ في رصد الكوارث التي ضربت البلاد منذ ما بعد النجاة من طوفان نوح، وصولاً إلى عصره؛ هل كان المقريزي خائفًا –مثلهم- من النهاية، وتلك طريقته لإخفاء جزعه؟ أم أنه اكتشف أن ما يدونه من سيرة الغابرين ما هي إلا سيرة أيامه، فعمد إلى المبالغة في تهويل أحداثها، ربما ليمنح الناس أملاً بأن كل شيء سيمر مهما كان سيئاً.

يرى المؤرخ المصري محمد عفيفي، أن كُتّاب التاريخ إنما يدونونه بوعي لحظتهم المعاصرة، ولعل ذلك مدخل لفهم المبالغات الضخمة التي أوردها المقريزي عن أزمة مثل "الشدة العظمى" التي جرت في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله في العام 457هـ، وأن إيراده أكل الناس بعضهم بعضًا، لم يكن سوى وعيه المعاصر الذي هَوَّن عليه صورة المجاعة في أيامه، وجعله يصدق، أن الناس كانوا يأكلون بعضهم بعضاً من شدة الجوع في أيام أقدم، ومثل كتابة التاريخ، تحتكم قراءته إلى الوعي الآني، الأمر الذي يفسر الاستدعاءات الكثيرة لتلك الحادثة بالذات دون غيرها من تاريخ مصر القاسي، لطرحها عبر منصات وصحف مختلفة خلال الأيام القليلة الماضية، تحت عنوان "كورونا ليس الأسوأ"!

إن إعادة قراءة تلك الرسالة القصيرة للمقريزي، التي لا تتجاوز التسعين صفحة، هو بمثابة قراءة للصحافة اليومية، ولكن بلغة من عصر سالف، في العام 696هـ، أيام دولة المماليك البحرية، بسلطنة العادل كتبغا، لم يوف النيل بفيضانه، وأدى ذلك لغلاء أسعار أعقبته مجاعة وانتشار لعدد من الأوبئة، فجمع السلطان أمراءه، وكانوا رتبًا: أمراء المائة وهم الذين يتكفلون بالإشراف على مائة فارس، وفي الوقت نفسه يقدمون على ألف فارس ممن دونهم أي يتولون قيادتهم أثناء المعركة، ثم أمراء الطبلخانات، ثم أمراء العشرات، فأمراء الخمسات وصولاً إلى الأجناد من المماليك. فأمر السلطان أن يتولى كل أمير عدداً ما يشرف عليه من الفقراء لإطعامهم: "فكان من الأمراء من يطعم سهمه من الفقراء لحم البقر مثرودًا في مرقة الخبز، يمده لهم سماطاً يأكلون جميعًا، وفيهم من يعطي فقراءه رغيفًا، وبعضهم كان يفرق الكعك، وبعضهم يعطي رقاقاً؛ فخف ما بالناس من فقر". ومنذ أيام، تبنى المشاهير حملة تبرعات لدعم العمالة الفقيرة، الذين تعطل معاشهم بسبب إجراءات العزل وما تبعها من فرض لحظر التجوال، تحت اسم "تحدي الخير"، كل شخصية عامة أو فنية بحسب مقدرتها المالية.

وخلال تلك الأزمة، أيضًا: "عظم الوباء في الأرياف والقرى، وتفشت الأمراض في القاهرة ومصر (أي مدينة الفسطاط)، وعظم الموتان (أي أعداد الموتى)، وطُلبت الأدوية للمرضى، فباع عطار برأس حارة الديلم من القاهرة (إحدى حارات القاهرة الفاطمية القديمة) في شهر واحد بمبلغ اثنين وثلاثين ألف درهم (...) وطُلب الأطباء (...) ثم أعيا الناس كثرة الموت، فبلغت عدة من يرد اسمه الديوان السلطاني في اليوم ما ينيف عن ثلاثة آلاف نفس؛ وأما الطرحاء (الميتون الذين يُلقون في الطرقات) فلم يحصر عددهم بحيث ضاقت الأرض بهم، وحُرت لهم الآبار والحفائر وأٌلقوا فيها؛ وجافت الطرق والنواحي والأسواق من الموتى"، وخلال الأيام الماضية انتشرت صور كثيرة عن تحويل عدد من المناطق والمدارس لمصحات لاستقبال المرضى!

لكن ما يتبقى من أخبار الحادثة، التي دوّنها –إضافة للمقريزي- عبد اللطيف البغدادي، طبيب القرن السادس الذي عاصرها، في كتابه "الإفادة والاعتبار"، أقسى من أن يعاد ذكره أو تصوره، لكن الشاهد الرئيس، من كل ما سجله هؤلاء المؤرخون من حوادث، أنها مرت، وأن الناس تجاوزوها رغم بدائية الحياة في عصورهم، مقارنة بتطورها في الوقت الحالي.

هل أنا، مثل هؤلاء المؤرخين، خائف، وذلك الربط التعسفي بين الماضي واليوم ما هو إلا وليد ذلك الشعور، الذي لا تحول بيني وبين الاستسلام إليه سوى مضادات الاكتئاب التي تعاطيتها في غير مناسبته؟ لا أعرف حقيقة، كل ما أدركه أنني أمضي، تحركني رغبتي في أن تطعم أمي وليدي حتى يمتلئ، فأقضي النهارات في مشاجرات طويلة معها. أقول ذلك، ليس عن أمل أيضًا، وإنما ثقة في رغبتي ورغبة غيري القوية في عبور تلك الأيام بأقل خسائر ممكنة، لأننا نحب الحاضر ونتمسك بالحياة، لذلك يبدو كل ماض، أقسى من لحظتنا التي نعيش.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها