الإثنين 2020/03/23

آخر تحديث: 13:15 (بيروت)

مجانية الإستهلاك في الحجر الصحي

الإثنين 2020/03/23
مجانية الإستهلاك في الحجر الصحي
increase حجم الخط decrease
ما إن أعلن الحجر المنزلي في إثر انتشار فيروس كورونا، حتى أعلن موقع البورنوغرافيا الشهير "pornhub" انه يقدم كل خدماته مجاناً لزواره من إيطاليا، قبل أن يوسع رقعة قراره هذه نحو بلدان أخرى. على أن خطوة "pornhub" هذه، سرعان ما تعممت، فحذت حذوه مؤسسات علمية وثقافية وفنية، على انواعها، إذ أعلنت تقديم خدماتها، وفي مقدمتها مكتباتها وأرشيفاتها، لزوارها مجاناً. هذا كله، بالطبع، يستند إلى فرضية أساس، وهي أن هؤلاء الزوار، وبعد إجبارهم على المكوث في بيوتهم، سينتابهم الضجر، وبالتالي، لا بد من الاسهام في تخفيفه، وعلى هذا المنوال، لا يعود يحملهم على مغادرة أمكنتهم، بل يبقون فيها.


فعلياً، لا تشير تلك الخطوة إلى دعاية التضامن، بل إلى طريقة من طرق الحكم في النظام العالمي، بحيث أنها تقوم بالقضاء على الضجر عبر التسلية، التي تتطابق، في هذا السياق، مع الإستهلاك. فبالإنطلاق من هذه الطريقة، تلغي التسلية ضجر الذين قد يشعرون به خلال أوقات فراغهم. وبالفعل نفسه، تحولهم إلى مستهلكين. فكلما أمعنوا في الاستهلاك، صاروا محكومين أكثر فأكثر. فالإستهلاك هذا يؤدي، في نهايته، إلى إلصاقهم في مطارحهم، ليطيح، شيئاً فشيئاً، أي خارج لتلك الأمكنة، بالتوازي مع إقفالها. فلا ينصرف المستهلكون-المحكومون من هذه المطارح، التي لا تغدو سوى أرجاء استهلاكهم وحكمهم، بل إنهم يستعيضون عن انصرافهم منها بالدوران داخلها. بالتالي، يشتغل استهلاكهم-حكمهم لمنعهم من الطلوع من تلك الأرجاء. وبهذا، يستوي في شكل انعزالهم عن أغيارهم، وعزلهم لهم. فيبقى كل محكوم منعزلاً عن غيره، الذي، ولكي يصير على نحوه، يعزله من موضعه، أو من موضوع إستهلاكه.

على هذا الأساس، طريقة الحكم تلك، الحكم بالإستهلاك، أو ما سماه زبغنيو بريجينسكي، وفي حين دعوته إليه العام 1995، بالـtittytainment(*)، لا تؤدي سوى إلى حجر المعرضين له، وإبعادهم عن بعضهم البعض. لا سيما أنها جعلت التواصل بينهم، التواصل الذي تكف عن الترويج له أيضاً، ضرباً منها، ضرباً من الإستهلاك، بحيث أنه لا يؤدي إلى كسر الحَجر، بل يحمل إلى إنتاجه، وإدامته: تواصل المحكوم مع غيره لتكريس انعدام أي لقاء بينهما، لتكريس انعزال كل منهما عن غيره. لكن، الأهم، أو بالأحرى الأخطر، أن الحكم إياه يقضي على حسبان المحكومين، أن لنظامهم آخر، أن لنظامهم مخارج، أن العيش من بعده، ومن دونه، ممكن، بحيث يقنعهم أنهم، وأينما ذهبوا، لن يكونوا سوى فيه.

في الجهة هذه، ومع بدء الحجر المنزلي، شاعت مقولة "أننا منعزلون"، التي أبدت أن انعزال كل محكوم عن أغياره، وانعزالهم عنه، بمثابة وضع عارض، أو مستجد على اجتماعهم، وهذا لا يُعدّ دقيقاً البتة. إذ أن الانعزال، وفي إثر الحكم بالاستهلاك، هو سابق على انتشار الكورونا. لكن الحجر، في الواقع، يبيّنه، يبرزه كما هو، من دون حواشيه، وفي مقدمتها التنقل الذي، ومنذ وقت طويل، ما عاد ينقل من مكان إلى مكانٍ آخر، إنما صار بمثابة جمود على شكل جريان وتزحلق وسفر داخل مغلق. فبيوت المحكومين صارت مطارح لحكم الاستهلاك، الذي، وإن انطلق منها، يتمدد في كل المطارح. بمعنى أن المحكومين، وحين يتركون بيوتهم، لا يتركون مطارحهم، إنما يظلون فيها. الحجر المنزلي يؤكد لنا أننا لطالما كنا متلزمين به، لطالما كنا فيه، وكل تنقلاتنا منه في الماضي، ما كانت سوى مجرد أوهام، مفادها أننا ننصرف من مطارحنا، أننا نغادرها، ومفعولها أنها تجعلنا نتحمل هذه المطارح. هذه الأوهام تعطلت، وربما، عطلها سينتجها لاحقاً من جديد. لكن، الآن، لا بد من إيجاد بديل منها، يجعل المطارح تلك محتملة، وفي الوقت نفسه، لا يبين أن الحجر هو خلاصة "مكانيتنا" (نمط انتاجنا للمكان) مثلما أرادها النظام وصنعها بحكمه.

من هنا، وبالتوازي مع إذاعة مقولة "أننا منعزلون" كما لو أن الانعزال وضع عارض ومستجد، وجد النظام، وعلى عادته، أنه، ولكي يبقي على محكوميه في مطارح استهلاكهم، أي في مطارح حكمه لهم، لا مناص له من تكثيف وتشديد إلصاقهم بها. لهذا، شرع، وفي صعيده الانترنتي، في توفير أغراض هذا اللصق، أغراض الاستهلاك، مجاناً لهم. بالطبع، نافل التوقف القليل عند أمرين: المجانية، وطابع هذه الأغراض.

بالمجانية، يشجع النظام، على الاستهلاك، يسهل الإلتصاق بمطارحه، عدا عن كونه يظهر وجهاً خيِّراً له، وجه يتعلق بدعاية التضامن، فيحث المحكومين على التعلق به، أو الشعور بالدَّين حياله. إذ يوفر لهم تلك الأغراض مجاناً، ليوفروا له حكمهم بلا مواجهته، بالخضوع. المجانية، وحين تصدر عنه، تكون من قوام قانونه، أي من كون كل شيء مقابل ثمن. لكنها أيضاً تشير إلى انه ينظر إلى الأغراض إياها، التي ينتجها، كأنها لا ثمن لها، ليس بمعنى أنها لا تقدر بثمن، لكن بمعنى أنه لا قيمة لها، بحيث أن تلَفَها هو ذروة إنتاجها، وهو قد يكون على شكل توفيرها للمحكومين بوصفهم محتاجين لها. إذ إن المجانية تظهرهم كأنهم في حاجة إلى تلك الأغراض، التي يوفرها النظام لهم، ويسد حاجتهم إليها.

هذه الحاجة هي حاجة إلى أغراض لها طابع ثقافي وفني وعلمي، بحيث أنها- عدا عن الفيلم البورنوغرافي- تروج لنفسها كأنها أعلى الأغراض، على أساس أنها ليست مصنوعة لاستهلاكها. على هذا النحو، توفيرها من قبل نظامها للمحكومين يجعلهم، وفي حَجرهم، يبدون في حاجة إليها، وليس إلى غيرها، التي تتعلق بالمأكل والمشرب، والتي في النتيجة، لا تعود ضرورية لأنها، وببساطة، محققة. في هذه الناحية، يصير المحكومون في حَجرهم، هم الذين لا يحتاجون سوى إلى تلك الأغراض بعد اكتفائهم من غيرها، وبهذه الطريقة، ينتمون إلى طبقة محددة، وهي الطبقة الوسطى. فالمحجورون، وبحسب حكمهم، هم من هذه الطبقة جميعهم، وهذا، في حين أن الذين لا ينتمون إليها، ما عليهم سوى أن يستهلكوا أغراضها، علّهم، بمشاهدة هذا الفيلم، أو بقراءة هذا الكتاب، أو بالتفرج على تلك المسرحية، يصيرون من أفرادها. أما مأكلهم ومشربهم، فلا داعي لهذه العاملة أو هذا العامل التساؤل عنهما، وفي حال تساءلا، فثمة مَن سيقمعهما مباشرةً بتهمة الاستهتار، اي عدم الاذعان للنظام. وبهذه الطريقة، يصير الحجر المنزلي سبيل انتماء إلى الطبقة الوسطى، وبهذه الطريقة، يترسخ كمطرح للإستهلاك، وكرجاء لحكمه "من دون مقابل"!

(*) tittytainment: جعل التسلية، بأغراضها على اختلافها، كناية عن أثداء أمومية، يحمل توفيرها المحكومين على الرضاعة منها، استهلاكها، من دون أن يشوب رضاعتهم هذه أي فطام عنها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها