الإثنين 2020/03/02

آخر تحديث: 16:45 (بيروت)

عن الهلع

الإثنين 2020/03/02
عن الهلع
تعقيم المدارس لدرء كورونا (غيتي)
increase حجم الخط decrease
ثمة أمر ينتشر بيننا الآن، وما علينا سوى أن نرضخ له، لكي نعلن أننا مندمجون في وحدة عالمية، تتشكل في إثر فيروس كورونا، ومن أجل مكافحته. ذلك الأمر هو الهلع، الذي صارت الإصابة به، وبفعل انتقاله السريع من حامله إلى غيره، مرجحة أكثر من الإصابة بموضوعه، أي كورونا. كما لو أن هناك سباقاً بين كورونا والهلع منه، أو وبالأحرى، كما لو أن الكورونا في خدمة الهلع، في خدمة تحقيقه، في خدمة تحقيق "الحاجة إليه"، مثلما كتب جورجيو أغامبن.

لكن، ما هو هذا الهلع؟
قد يكون تعريفه المباشر هو أنه الخوف في تفاقمه. لكن هذا التفاقم، وفي حد ذاته، يقلب معنى الخوف، أو موقعه على وجه الدقة: من كونه سبيلاً إلى الإحاطة بالحال، من كونه مطلعاً لهذا السبيل، إلى كونه قطعاً لهذا السبيل. بالطبع، فعل القطع، هنا، يحيل إلى وضع متصل بالخوف، وفي الوقت نفسه، مغاير له، أي الجزع. الاختلاف بين الإثنين؟ الخوف يحيط بالحال، الجزع، لا. بعبارة أخرى، ومبتذلة ربما، الإحساس بالخوف قد يعتريك كأول الدفاع عن النفس، أما الإحساس بالجزع، فليس كذلك. بالتالي، الهلع لا يمت بصلة إلى الخوف إلا حين يتحول هذا الخوف إلى جزع، حين يفقد هذا الخوف سمة محددة: الصبر.

فبحسب العربية، الجزع يجمع كل علامات الخوف، ما عدا الصبر. أي أن الجَزوع، هو الذي يخاف من موضوع ما، لكنه، في الوقت عينه، لا يصبر عليه، لكي يدري كيف يواجهه. فالصبر يشيد مسافة مع هذا الموضوع، مسافة تتيح التعامل معه بحق، وتناقصها، تقلصها، يجعله قريباً. من هنا، وبما أن الهلع هو، وبحسب العربية مرة أخرى، "أسوأ الجزع"، فقد يصح القول إنه الجزع الذي ينتجه انعدام تلك المسافة. إذ لا يجعل من موضوعه موضوعاً قريباً فقط، إنما، وملاصقاً أيضاً. باختصار، الهلع هو التعامل مع موضوع الخوف بلا أدنى مسافة.

ولأنه كذلك، هو يستوي على ترادف مع الإستهلاك، بوصفه حصولاً فورياً على غرض ما، وتناوله من دون أي حد يفصل عنه. فعلاقة الهلع مع موضوعه هي علاقة تقوم بالإستهلاك، الذي يبدأ بالتناول، وينتهي بالنفي. الهَلوع، "الضَجور" الذي ولد على حطام الخائف، هو الذي يذهب في استهلاك موضوعه حتى إلغائه من أمامه، مستدخلاً اياه على تمامه.

في هذه الجهة، ليس الهَلوع الأكبر من فيروس الكورونا في لبنان سوى الدولة، التي تردد أنه لا داعي للهلع. وبالفعل نفسه، لا تقدم على أي إجراء حياله، كما لو أنه غير موجود البتة. ما يعني أن هذه الدولة بلغت باستهلاكه درجة نفيه، درجة التعامل معه كأنه ليس في رجائها، كأنه صار فيها، كأنه ما عاد فيروساً، كأنه صارها. "وحدة حال" بين الدولة والكورونا، ولهذا، لا تتدخل في نشاطه كي لا تعرقل نشاطها.

إلا أن الهلع ليس "أسوأ الجزع"، إنما، وأيضاً، وبحسب العربية مرة تلو المرة، "أفحشه". الفحش، هنا، ليس مجرد تجاوز للحد الذي يفصل الهلع عن موضوعه، أي إلغاء المسافة بينه وبين موضوعه، بل إنه المبالغة في تكرار التجاوز، ليصير شيئاً محدداً، وهو الإظهار. بطريقة أخرى، الهَلوع، وحين يبالغ في استهلاك موضوعه، في نفيه، في استدخاله من أمامه، يفحش، يُظهر. ماذا؟ على طريقة الدولة، يُظهر أن موضوع هلعه قد انتفى، انه لم يعد خائفاً منه البتة، أنه أضحى مالكاً له.

الهلع ليس إبداء الخوف من موضوع ما، بل عرض السيطرة عليه، إظهار انعدام الخوف منه، إظهار تملكه. ولهذا، لا بد من السؤال: إظهار ذلك لمَن؟ لمَن يظهر الهلوع؟ الجواب المختصر: للذي يريد أن يخبره بأنه لا يؤمن بوجود آخر له، ولو أخذ شكلاً فيروسياً، كما يريد أن يخبره بأنه لا يؤمن بوجود مَن يستطيع أن يخترقه، أن يخترق "واحديته"... يقول الهلوع كل هذا، للنظام، لنظام دولته التي يبغي أن يكون على مثالها، وعندها، ينجز هلعه بالكامل. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها