السبت 2020/02/22

آخر تحديث: 13:43 (بيروت)

"صندوق الدنيا".. عندما تتوجه بالفيلم إلى "فايسبوك"

السبت 2020/02/22
"صندوق الدنيا".. عندما تتوجه بالفيلم إلى "فايسبوك"
رانيا يوسف وصلاح عبد الله والمخرج عماد البهات
increase حجم الخط decrease
أعرف نمطاً من القصص القصيرة، أسميه القصص المبتسرة، حين يمسك أحدهم بفكرة ما، يظنها براقة، أو يشمر عن ذراعيه حتى كتفيه، قبل أن يهم بلملمة ملحمة في بضع صفحات، ثم يحشد لها ببداية يظنها جذابة، ويسير يجرُّ إلى نصه كل ما ظن أنه إنساني أو مفارق. لكنه، وبسبب ما أنفقه من جهد في الإطراء على قدرته في استخلاص كل ما هو إنساني ومفارق، أو ربما تشميرة ذراعيه صارت تؤرق عضده، يتوقف فجأة، مقررًا أن النص انتهى، فيدفعه إلى جمهوره الضئيل في "فايسبوك"، والذي غالبًا ما يكون من النوع الذي يتعاطى الفن، كل أنواعه، بعينين متسعتين على دهشة تكاد تأكل جفنيها، فترى كل مبتسر آية في العبقرية، ودعوة مفتوحة للتأويل واستكمال ما نقص من فراغات.

ذلك النوع من القصص، وآليتا إنتاجه وتلقيه، يكاد يتطابق ورؤية صناع فيلم "صندوق الدنيا" لعملهم، ابتداءً من عماد البهات، مخرجه ومؤلفه بالاشتراك مع أسامة حبشي، مروراً بشركة "كيميت" منتجة الفيلم، وسائر فريقه من الممثلين: رانيا يوسف وباسم سمرة وخالد الصاوي وعلاء مرسي وصلاح عبدالله وغيرهم.

يصيغ عماد البهات فيلمه، دامجًا طريقتي المخرجين البولندي كريستوف كيشلوفسكي، والأميركي كوينتن تارنتينو. فهو يستعير من الأول الصيغة التي ربط بها ثلاثيته المشهورة "الألوان"، حين جمع في كادرات منفصلة -في كل واحد على حدة- بطل الفيلم بالذي يليه والعكس، ويستعير من الثاني طريقته المميزة في تقسيم الفيلم إلى مجموعة من الفصول. فيصنع البهات، عبر الأسلوبين فيلمًا من خمسة فصول (حلم، كومبارس، ممرات الخوف، الرهان، آخر نفس)، ولكل فصل من الأربعة الأولى بطل وحكاية مستقلة، لكنها تتقاطع جميعًا في علاقات عابرة يتسع لها الكادر، أو وطيدة بين بعض أولئك الأبطال. ثم يجمعهم -في ترجمة مباشرة لعنوان الفصل الأخير- ضمن مشهد فانتازي ساذج، يتشابه وما تسرده الفصول السالفة من حكايات فقيرة لا تقدّم عن حيوات أصحابها غير صور باهتة، باستثناء قصة وحيدة حملت عنوان "الرهان"، ولعبت بطولتها رانيا يوسف وصلاح عبدالله، هي الأنضج بين قصص الفيلم المتناثرة.

يضع عماد البهات منذ الفصل الأول لفيلمه، إشارات يمهد للجمهور من خلالها، لئلا ينتظروا منه الكثير، فهو لا يلبث أن يقدم شخصية الريفي في صورتها المعلبة، بجلباب وشال، يسمي القاهرة "مصر"، ويصفها بالمدينة ذات الألف وجه أو المولد الكبير. لذلك يكون منطقيًا أن يقدم صورة كاريكاتورية للأديب، باعتباره سكيراً مفلساً وضائعا بين البارات، تخونه زوجته لأنه لا يستطيع إعالة بيته، فكتابة الشعر لا تملأ البطن ولا تسدّد إيجار البيت، ثم يُحمل قصص تلك الشخصيات، ما لا تستطيعه، ربما لأنه يريد أن يقول للمتفرج: انتبه، هي كليشيهات صحيح، لكن انظر تلك الحركة، هذا الريفي الذي يعرّف القاهرة على أنها مصر، يحلم بعرض لعرائس الماريونت، يصارع فيه شريرًا قبل أن ينتصر عليه الأخير ويجز رأسه ثم يحبس ابنه في العرض. وذلك الشاعر المفلس الذي لا يقرأه أحد، امتلأت القاعة أمامه وعرفه الجميع عندما تحول إلى كتابة الرواية لأنها المقروءة والتي تبيع، وأصبح في مقدوره - بين يوم وليلة- شراء مسدس بطريقة غير شرعية لقتل زوجته!


يمكن لسارد جيد، سواء كان كاتبًا أو سينمائيًا، أن يصنع تاريخًا لبطله بجُملة واحدة يتلفظ بها في حوار، لكن ذلك لا يعني أن أي جملة تحاول من خلالها الشخصية أن تكشف نتفًا عن تاريخها القديم، قادرة على القيام بالوظيفة ذاتها، خصوصاً إن كان الإطار الذي يعرضها من خلاله من الغموض والفقر المعلوماتي بحيث يزيد الفجوات في القصة ولا يملأها. فشخصية الريجيسير، الذي يظهر في الشاشة كقواد ويعيش في منطقة وسط القاهرة، يقدّم نفسه في نهاية الفصل كعاشق يهيم بحب بائعة الخضر، التي جاءت بصحبته في القطار نفسه من بلدتهما منذ عشر سنوات، لكنها لا تزال بائعة خضر بينما أصبح هو ريجيسير مشهوراً تقدّم له راغبات الظهور على الشاشة الفضية أجسادهن كمقابل لاختيارهن في الأعمال التي توكل إليه.

ويبدو أن الفجوات الكثيرة في معظم القصص، قد استرعت انتباه أمير جادو، مؤلف موسيقى الفيلم التصويرية، فصار يحشد المشاهد كلها تقريبًا بموسيقى انفعالية، لتحفيز المشاهد، ربما، على التعاطف مع ما يراه في الشاشة أمامه. لكن، على خلافه، لم تنجح مساعي مدير التصوير عمر فاروق، الذي حاول أن يضبضب عدسته عند تسليطها على كتف رانيا يوسف، لإخفاء ما فيها من وشم ظاهر لا يتناسب مع الشخصية التي تؤديها كعاملة استقبال فقيرة بعيادة طبيب قلب مشهور، وفي نهاية العقد الثالث من عمرها ولا تزال بِكرًا.

عندما جعل المخرج البلولندي كيشلوفسكي أبطاله يتبادلون الظهور الشرفي في أفلامه الثلاثة، كان يصنع إطارًا أكبر يجمع ثلاثيته، غير أنها تستطيع أن تعيش منفصلة عن بعضها البعض، من دون أن يفقد أي منها قيمته. لكن البهات، الذي عمد إلى استخدام الآلية نفسها، أضر كثيرًا بالزمن الفعلي الذي من المفترض أن يستوعبه فيلمه. فـ"صندوق الدنيا" لا تدور أحداثه في يوم واحد من الصباح إلى المساء، وإنما تدور في الوقت الذي قد يستغرقه عرض الحاوي مع فصله الأول، وهو العرض الذي لا يمكن أن يدوم طويلًا، لأنه من المفترض أن يجول على مقاهي وسط البلد المختلفة، وبالتأكيد لن يقضي الليل كله في مقهى واحد. فإذا افترضنا أنه عرض طويل نسبيًا، يصل إلى ساعة هي التي تحتاجها قصص الفيلم المتوازية لعرض أحداثها، فإن رغبة البهات في جمع قصصه المتشابكة لكي تعكس العنوان الذي وضعه لفيلمه "صندوق الدنيا"، جعلته يبدو كما لو أن العرض أخذ المساء كله، وصنعت في الوقت نفسه مأزقًا زمنيًا أمام أحداث بعض القصص الذي سيستغرق وقوعها أكثر من الساعة بكثير.

يضع البهات الكثير من شخصيات قصصه ويكرر ظهورها في أكثر من فصل، خلال قيامها بمهام تتعلق بالأحداث التي ستكشفها حكايتها في الفصل الذي يخصها، الأمر الذي أربك التتابع الزمني لأحداث الفيلم وجعل بعضها غير منطقي. فقاتل باسم السمرة (سائق الميكروباص الريفي)، مثلاً، يذهب في الفصل الأول لجلب مسدس سيبيعه لاحقًا للشاعر (خالد الصاوي) وحين تطارده العصابة يضطر إلى قتل السمرة، ثم يصل في فصل تال إلى الشاعر فيسلمه المسدس، قبل أن يستوقفه البوليس في فصل ثالث ويلقي القبض عليه. وكذلك تظهر رانيا يوسف وهي تقف ضائعة في عيادة الطبيب، الممتلئة عن أخرها بالمرضى، قبل أن يطلبها الطبيب ليسألها عن جاهزيتها لعقد قرانهما العرفي، بعد انتهاء ساعات العمل في العيادة، ثم تكشف له الأخيرة أنها غير جاهزة فيطمئنها، فتذهب للتجهيز ونزع الشعر عن جسمها بالطريقة البدائية باستخدام عجينة السكر والليمون. ثم تخلو العيادة، ويأتي الشهود وتتم الزيجة العرفية، ثم تبدأ علاقة جنسية بينها وبين الطبيب، ثم يهجرها. كل ذلك والحاوي لا يزال في مكانه يقدّم ألعابه للجمهور!

غير أن تلك القصة الأخيرة كانت الأفضل من بين قصص الفيلم الأربع، لأنها تعكس مشاعر متضاربة تنتاب الطبيب الوغد وتضعه في مأزق أخلاقي، لا يستطيع مواجهته فيهرب. وتجسد، رغم زمن عرضها القصير، مأساة الفتاة ما قبل الزواج وما بعد اكتشافها هرب جراح القلب الغني،. ولعل ذلك هو السبب في أن يظهر أداء رانيا يوسف وعلاء مرسي وصلاح عبدالله لافتًا في ذلك الفصل، بخلاف الأداء الأضعف لباقي زملائهم، الذين يبدون وكأنهم أرادوا بما قدموه، الحفاظ على قصصهم التي عرضوها على الشاشة مبتسرة كما هي، والاكتفاء برغبة المخرج –الباطنية- بصناعة فيلم "مفارق" و"إنساني"، والتي تصلح، هي، وما احتشدت به الصورة من شوارع وبنايات تشتهر بها منطقة وسط القاهرة، واشتملت عليه القصة من حياة –تبتغي الإدهاش- للفنان والأديب، للتأثير في المتلقي. ونسوا جميعًا، في ما يبدو، أن جمهور السينما أعرض من ذلك الذي يسكن "فايسبوك"، وأنه يتدرج في وعيه الفني بين مُشاهد يقدّر السينما، وآخر تجذبه لافتة عرضه التي تشير إلى أنه لا يصلح لمن تقل أعمارهم عن 18 عامًا، وكلهم يدفع ثمن التذكرة ويبحث عن المتعة باختلاف أغراضها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها