الخميس 2020/12/03

آخر تحديث: 12:39 (بيروت)

"الموصل".. إذ ينقذ شرف الأكشن الأميركي

الخميس 2020/12/03
increase حجم الخط decrease
قرب منتصف فيلم "الموصل"(*) تقريباً، يأتي مشهد مفتاحي: يتوقف الجندي الكردي كاوا (التونسي آدم بسة) بمدرعته، فيما يطلق قناصان داعشيان النار بشكل عشوائي على مدنيين فارّين. كلاهما قُتل الآن، بعدما اقتحم المقاتل الشاب، المناهض لتنظيم "الدولة الإسلامية"، سطح المبنى المُدمَّر مع فريقه. يشعل كاوا سيجارة من علبة أحد الصريعين، وينظر إلى الأسفل في الشارع. ما زالت الجثث ملقاة هناك، فيما تُواصل أمّ مكلومة هزّ طفلها الميّت كما لو كانت توقظه من نومه. على الأرض بجانبه يرقد دبّ قطني كبير.

ثم يأتي مشهد نادر وجوده في أفلام الحرب: الأم تنظر وتعيد النظر إلى كاوا، في مكانه حيث جاء الرصاص. هل تراه حاميها ومخلّصها؟ أم تعتقد أنه قتل طفلها ويتلذذ الآن بمشاهدتها تمارس حزنها؟ أم أنها ببساطة تراه كواحد من هؤلاء الرجال الخائضين هنا، في تلك المدينة الموعودة بدمارٍ كامل، حرباً بلا نهاية من أجل لا شيء وضد كل شيء، هؤالء الذين لا يجلبون سوى المعاناة ويراكمون على أكتافهم عبء آثام وشرور تطلق أحمالها في لحظات كهذه كيقظة ضميرية صامتة مختلسة وسط ضجيج القتل؟ لا أحد يعرف. لكن هذا السؤال وحده، الذي سمح به كارنهان لنفسه في هذه اللحظة الهادئة المزعجة، يُظهر أن "الموصل" يفعل شيئاً مختلفاً عن معظم أفلام الحرب، الأميركية بالأخصّ.


تدور أحداث الفيلم في يوم واحد من ربيع 2017، في الأسابيع الأخيرة للهجوم الكبير للقوات المسلحة الكردية والعراقية لتحرير مدينة الموصل من تنظيم "الدولة الإسلامية"، ويتابع فرقة تدخُّل تتمرَّد على أوامر القيادة المركزية وتنطلق إلى داخل البلدة القديمة حيث تخوض معارك عصابات شرسة من منزل إلى منزل من أجل إنقاذ عائلات أفرادها من قبضة العدو. مشاهد تطبعها الحرب بدمارها وخرابها، وكلّها مصوّرة بتناقصات بصرية حادة، على عادة أفلام الحرب الأميركية. الجديد هنا، أن لا أبطال أميركيين في الصورة. صحيح أنهم يساعدون بطريقة ما في الخلفية، لكنهم في الواقع يمثّلون ذكرى بعيدة.

فأدوار البطولة في "الموصل" محفوظة لممثلين آخرين، عراقيين وأكراد، يتحدثون العربية، وتحديداً باللهجة العراقية، وهذا ما يجعل الفيلم مميزاً للغاية. أما بقية طاقم الفيلم خلف الكاميرا، فتقريبا كلهم أجانب: ماثيو مايكل كارنهان، مؤلفه ومخرجه أميركي، وكذلك منتجوه، الأخوان روسو، المعروفان بأفلام مارفل الشهيرة، والمصوِّر الإيطالي الشهير ماورو فيوري. على الورق، يمكن لهذه المعلومة إثارة الشك في البداية، نظراً للتاريخ الهوليوودي الطويل في معالجة قضايا عربية بمنظور نمطي وقولبة سطحية. عطفاً على حقيقة أن الفيلم يمثل التجربة الإخراجية الأولى لمؤلفه ومخرجه كارنهان، صاحب السمعة السيئة في سيناريو فيلم "المملكة"، الذي قدم طرحاً نمطياً لحرب السعودية ضد الإرهاب، وسيناريو "حرب الزومبي العالمية" الذي بدا فيه الجدار الفاصل الإسرائيلي درعاً ضد الفلسطينيين المصابين بفيروس قاتل.

لكن الأخوين روسو، فضلاً عن وقوفهما وراء إخراج أكثر الأفلام ربحاً في تاريخ السينما، يتسلّحان بعقيدة ليبرالية وانفتاح عالمي يؤهلانهما لتناول ما يحدث خارج الولايات المتحدة بما يلزم من تحضير جاد ومعالجة موضوعية. والنتيجة؟ هذا الفريق الغربي تماماً فتح بتأنٍ فضاءً سردياً استثنائياً، من دون مرافقين بِيض وشخصيات رئيسية، من دون النظرة الغربية التي يجب شرح كل شيء لها بجهد. لا وجه "أبيض" واحداً أمام الكاميرا، والحوار باللغة العربية طوال الوقت، والعرب هنا أبطال، لا ضحايا. لم يكن هذا ليوجد قبل أن تفجّر منصات "الستريمنغ" تفكير هوليوود وتكمل عولمة السرد. ومثل العديد من الأفلام في زمن الإغلاق الكوروني، يُعرض "الموصل" عالمياً لأول مرة في "نتفليكس".

بصرياً، رغم دربة الكاميرا الواضحة القادمة من سينما الأكشن، إلا أنها في متابعتها الشخصيات عبر الأزقة الترابية والمنازل المدمرة، لديها في بعض الأحيان حِسّاً وثائقياً أو صحافياً. يرجع ذلك أيضاً إلى النصّ الذي اقتُبس عنه الفيلم. ففي العام 2017، نشرت مجلة "نيويوركر" تحقيقاً مؤثراً عن وحدة قتالية خاصة من الموصل، فَقَدَ أعضاؤها جميعاً أحد أفراد أسرتهم بسبب تنظيم "الدولة الإسلامية" أو أصيبوا في المعارك ضدها. اشتهر "فريق نينوى سوات" (فرقة نينوى للتدخل السريع) بالفتك الشديد، وكان أعضاء هذه الوحدة هم المقاتلين الوحيدين الذين لم يعرض عليهم تنظيم "الدولة الإسلامية" الانضمام إليه في حالة أسرهم، بل كان يُعدمهم فوراً. في الصور المرافقة للتحقيق الصحافي، يحدّق القارئ في وجوه رجال تقول عيونهم إن هذا يكفي الآن. رغم التهديد الذي يشكّله التنظيم، فإن ما توقظه وجوه هؤلاء الرجال الأشداء هو شيء أكثر رعباً، خصوصاً الوجه المتحجر لقائد الفرقة في الفيلم، الرائد جاسم (يؤديه العراقي سهيل دباش)، إذ يقترب من تلك الصور ويوحي بغياب المسالمة خلف واجهته الصلبة.

تنتظم مشاهد المعارك في "الموصل" مثلما في فيلم عسكري أميركي محموم. في سيارات هامفي مدرّعة، يتصدّرها شعار الجمجمة والعظمتين المتقاطعتين، يندفع الفريق عبر المدينة المدمرة، وينخرط في معارك بالأسلحة النارية ولا يستبقي أي أسرى. الإعدام هو المصير المحتوم لكل عدو يقع في أيديهم حياً. كاوا، الذي كان شرطياً بسيطاً وجنّده منقذه الرائد جاسم، بعد قتل عناصر "داعش" لعمّه في المشهد الافتتاحي، يصاب بالصدمة في البداية. لكن بعد ذلك، أكثر ما يثير الإعجاب هو مقدار الوقت الذي يستغرقه الفيلم للاقتراب من رجال هذه المجموعة، حين يفرغون مياههم الزائدة أو يشاهدون مسلسلاً كويتياً، أو خلال صلاة هادئة وسط الأنقاض، حتى عندما يصرخ باقي أعضاء الفريق على بعضهم البعض بوجوه حمَّرها التوتر، فقط لمعرفة ما سيحدث بعد ذلك.

عادة ما يحضر رجال مثل كاوا وجاسم، في السينما الأميركية، كمجهولين بلا أسماء أو وجوه، وفي أفضل الأحوال يعملون علفاً للمدافع إلى جانب الجنود البيض الأبطال أو حتى أعداء الأميركيين (لأنهم عرب بالطبع). مع ذلك، وفي غياب الأميركيين، تظهر مساحة أكبر للتنوع بعيداً من حصرية المفهوم الأميركي عن التنوّع، وإن لم يحسن الفيلم استخدامه بالشكل الأمثل. يعرف كارنهان بوجود اختلافات حاسمة بين المجموعات العرقية والدينية المختلفة في العراق، لكنه يتصفَّحها بشكل عرضي. في إيماءات صغيرة، تُظهر هوس جاسم بالنظام، على سبيل المثال، يستحضر الآباء والأبناء والإخوة المتوفين، الذين حلّ مكانهم الآن رفاق السلاح. لا يكاد يوجد حديث عن النساء، إلا إذا ظهرن في مسلسل تلفزيوني. لكن غالباً، فإن ما لا يريد أحد الحديث عنه نهائياً، هو في الحقيقة كل ما يدور حوله الأمر.

الصور النمطية المرتبطة بالحرب يجري تفكيكها أيضاً، فلا شيء بطولياً هنا، مثلما في أي حرب. الناس يموتون في المعارك بوفرة، وبوتيرة سريعة، وبصورة سيئة للغاية. خطوة واحدة خاطئة، حركة واحدة طائشة يمكن أن تقطع مسار رصاصة أو تفجّر فخاً ناسفاً. كذلك يقوّض الفيلم أنماط السرد المتوقعة، فتحديد الفيلم لشخصية ما كمحبوبة أو شعبية، لا يعني بأي حال من الأحوال حمايتها من نهاية مريرة ومفاجئة. الصدمات الدرامية كذلك لا يبخل بها الفيلم. في ذلك، "الموصل" فيلم غير مريح يتطلب الكثير من مُشاهِده، الكثير من الانتباه إذا أراد اختراق ما يعرضه بشكل كامل. على عكس ما قد يوحي به نظمه المحموم والمشهدي في بعض الأحيان، فإنه ليس فيلماً تطفلياً أو لحوحاً. لا يعيد اختراع العجلة ولا يتمادى بصرياً على الأعراف المعتادة لأفلام الحرب، لكن فضيلته الكبرى تتمثّل في إعطاء الفرصة للعراقيين لتمثيل قصّتهم، حتى إن كَتبت تلك القصة في الأصل أيدٍ أميركية. ما يدور حوله في الواقع، يحدث بهدوء وبأدق التفاصيل التي تكشف عن رؤية ذكية وإنسانية. وهكذا ينجح كارنهان، بالمصادفة وبلا قصد تقريباً، في إنقاذ شرف فيلم الأكشن الأميركي.

(*) يُعرض حالياً في "نتفليكس"

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها