الثلاثاء 2019/07/16

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

مدينة القمر

الثلاثاء 2019/07/16
increase حجم الخط decrease
لم يعد الخيال، ومنذ فترة طويلة، كلمة مفتاحية في قاموس عالم الفن، لكن يبدو أنه حالياً يجد سبيله الى الظهور فيه من جديد، بوصفه طاقة حاملة على فعل معين، وهو السرد الذي يحوله أيضاً الى تخييل.

مارييل شابال من الفنانات اللواتي يعلمن كيف يذهبن بهذا التخييل إلى أشواط متقدمة. ففي عملها al-qamar، الذي يعرضه "باليه دو طوكيو" في سياق احتفائية alt+r، تشيّد مدينتها، التي، ومع انها مستقبلية، تقع في وقت قريب من وقتنا الراهن، اي في العام 2023. فلا يحتاج تخييلها إلى قفزة كبيرة في الزمن، كما أنها، وحين تختار رجاءه، أو رجاء مدينته، لا تقع عليه بعيداً من المعمورة، بل تجده فيها، أي في أريحا، التي تُعْرف بمدينة القمر، وفي رحابها الأثري تحديداً. بالتالي، عندما تزاول التخييل، تُبين لأنه لا يستلزم الإبتعاد في الزمن والمكان، بل يستطيع أن يدور "في المقربة". ولا يتبدد دورانه على هذه الحال بعد الوقوف على المدينة، بل يبقى دوراناً سالكاً. فالمدينة شيّدتها جماعة نسوية، تدعى Halmens، وقد راحت تحاول فيها إبداع طرق جديدة للعيش تتعدى طرق العيش في عصر الرأسمالية لتكون تحررية في كل النواحي، من الاقتصاد إلى الجسد. وهذا، فعلياً، يقرب "القمر" أيضاً من تجارب حديثة، تنم عن ضرورة وليس عن بغية استطيقية بالطبع، وآخرها كان تجربة فافيلا Ocupação Esperança البرازيلية، التي تديرها العصبة النسوية، ساعية إلى تنظيمها ذاتياً، بالاستناد إلى أدبيات الانعتاق، وفي مقدمتها لاهوت التحرير، والأكلجة الماركسية، متصدية للعنف الذكوري، الذي تفاقم مع وصول جايير بولسيناريو إلى السلطة في البلاد.

في النتيجة، ليس تخييل شابال منفصلاً عن وقائع حاصلة. لكن، هذا لا يلغي انه ينطلق منها لكي يغدو يوتوبياً أكثر فأكثر، لا سيما أن منطلقه يشبه موضوعه. فالفنانة لا تعتقد سوى بالعمل التعاوني، وهي، لكي تنجز "قمرها"، دعت زملاء لها، يعملون في العمارة والكتابة والتصوير والسينما والتصميم، وطلبت منهم ان يشاركوها تخييلها، وهكذا فعلوا. إذ إنها، وإياهم، وضعوا مدينتهم في الخريطة، قبل أن يُجَسموها، ثم مضوا إلى تسجيل فيلم عنها لتوثيق الحياة فيها، بالإضافة إلى أنهم صمموا ملابس خاصة بها، مثلما أنهم فتشوا عما كتب عنها في المجلات والجرائد، فاستخلصوا من تفتيشهم هذا عدداً من مجلة reset، وهو قد صدر في العام 2030، أي بعد خمس سنوات من إطلاق كومونة القمر، ويتضمن تغطيات وتحقيقات ومقابلات مع بعض سكانها، فضلاً عن نصوص لهم. على هذا المنوال، وفي سياق بنائهم مدينة "القمر" باعتبارها تخييلية، ارتكزوا على محركها نفسه، اي التعاون، فبدا أنهم يشيّدونها في ما بينهم.

بيد أن الأهم هنا هو أن الاطلاع على "القمر" لا يحصل في العام 2019، بل، على الاقل، بعد 11 عاماً، ما يعني ان المفعول الأساس لتخييل شابال لا يتعلق بتلك المدينة، أو بزمانها ومكانها، بقدر ما يتعلق بالحاضر، بحيث أنه هو الذي يصير مستقبلياً. فيأتي الزوار إلى "القمر" من العام 2030، وعندها، يكتشفون انها قديمة، من دون أن ينفي ذلك أنها يوتوبية. فمن الممكن أن تستوي على الصفتين معاً، وربما لا يمكن النظر إليها سوى على أساس هذا الاستواء المزدوج، لتكون يوتوبيتها غابرة، لا سيما أن عمرانها، وبفعل وسعه، يشير إلى كونه مهجوراً، وفي الوقت نفسه، في إبان تغيره إلى مأهول.

ومن هنا، يصير ذهاب شابال بتخييلها إلى أشواط متقدمة على معناه، ففي حال كان خبراً عن المستقبل، فهو يجيء ماضياً، قديماً، وبهذا، يحول الواقفين عليه إلى عائشين من بعده، من بعد "القمر". فإما أن ينظروا إليها كأثرٍ في متحف، أو أن يكونوا هم في متحفها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها