الجمعة 2019/05/03

آخر تحديث: 12:37 (بيروت)

سيرة الختيار: حين يتحدث أزعر من باريس

الجمعة 2019/05/03
سيرة الختيار: حين يتحدث أزعر من باريس
الختيار: "إن رأى طفلاً يموت في الشارع، قفز إلى الرصيف الآخر، ذلك أنه قرأ زرادشت".
increase حجم الخط decrease
ليس غريباً على ميشيل كوكوريف أن يكتب سيرة عزالدين غرينبو تحت عنوان "الختيار، سيرة أزعر" (دار أمستردام، 2019)، وهو سوسيولوغ الانحراف عن القانون ودولته في باريس وضواحيها. وهو، حين يقدم على ذلك، لا يجد نفسه سوى في موقع واحد، أي موقع المُسَجِل. فلا يتدخل في سرد عزالدين، الذي لا يسهب في تحليل فطن، داحضاً تلك المقولة بأن مجتمعه، المجتمع "الزعروقراطي" كما يسميه، يروي عيشه، بأفعاله، ووقائعه، ومواقفه، بلا أن يفهم معانيها أو تراكيبها. 

طبعاً، لا يمكن غض النظر عن كون الختيار، وعندما أمضى 19 عاماً في السجن، تحول إلى قارئ للأدب "العظيم" (زولا، وهوغو)، والبوليسي (سيمينون ودار)، والفلسفة (أفلاطون ودولوز). وبتسريحه من السجن، أضاف على قراءاته، مشاهدته للسينما الفرنسية والأميركية. لكن كل إلمام الختيار الثقافي، أو تثقفه، يستمد فعاليته من تجاوره مع "زعرنته"، واقترانه بها باعتبارها لب تاريخه.

من الممكن تحديد لحظة تحول الختيار إلى الزعرنة، بأنها لحظة تلقيه لعبارة قالها زميل له في الثانوية المهنية. فبعدما أخبره بأنه "لا يعرف ماذا يفعل هنا"، أجابه بأنه "يتعلم ليأخذ مكان والده". هذه العبارة جعلت الختيار يعلم أنه لا دور له في تقرير مسار حياته، الذي لن يكون فيه سوى عامل، مهاجر، من أصل تونسي، جاء إلى فرنسا في العام 1960، سكن في الدائرة الباريسية العاشرة، قبل انتقاله إلى جينيفلييه حيث أقام في مبنى مشيد لطبقته. فهذا هو ماضي والده، الذي سيكون مستقبله. لكن الختيار، ومع رفضه لتلك العبارة، شرع في رفض مؤسستها، الثانوية، متسرباً من صفه، ومبدداً وقته مع صحبه، الذين شيئاً فشيئاً صاروا يجربون سرقة دكان من هنا، أو منزل من هناك. هكذا، انطلقت زعرنة الختيار، التي، وإذا دفعته إليها "حقيقة" ألزمته المؤسسة التعليمية بها، فإنه لن يطورها سوى على أساس "حقيقة" أخرى، ستكرهه عليها المؤسسة التأديبية، أي السجن. فها هو، وقبل ان يبلغ الثامنة عشرة من عمره، يدخل إلى الزنزانة لأربعة أشهر إثر اعتقاله بجرم السرقة، وهناك، يصطدم بقسوة السلطة، وعنف السجناء، ما يحمله على وجوب أن يصير مماثلاً لها ولهم. وبذلك، يتخرج الختيار من سجنه، ويذهب إلى ممارسة زعرنته على أكمل وجه، بحيث ينتقل من السرقة إلى الاتجار بالهيروين. 

لا يصور الختيار نفسه كضحية، سيرته أبعد من ذلك. ولا يتصور فيها كبطل، إنما فعلياً كشخصية من العالم السفلي لباريس، ومعها كل فرنسا. يتحرك في أحياء المتروبول وشوارعها الخلفية، كما يتنقل بين أمكنتها السرية، حيث ينسج اجتماعها مع كل مواطنيها، من سارقين، ومزوري أموال، وتجار مخدرات، ومحتالين، وفارين من المحاكمة التي تدعى "وجه العدالة"... يقدم الختيار في سرده، ما يشبه خريطة لذلك العالم الزعروقراطي، من بيغال إلى الكوت دازور، ومن بلفيل إلى ليون. مثلما يقدم، وهذا ربما من أهم المقالب في سيرته، قواعد الانتماء الى هذا العالم، وعلى رأسها قاعدة المخاطرة: يتوجب على الختيار، وفي سهرات علبة الليل "كيس كلوب" التي يرتداها بعد "عمله"، أن يبين  لصحبه انه يمتلك الكثير من المال. وكلما فعل ذلك، أشار إلى مخاطرته التي أدت إلى هذا الثراء، وبهذا، ظل حتل مرتبة أعلى منهم في هرمية الزعران.

لم يبق الختيار كما هو، تغير مع الوقت الذي حكمته تغيرات عديدة. أولها، دخوله المستمر إلى السجن. وثانيها، انحسار سوق الهيروين لصالح الكوكايين والحشيش. وثالثها، تدهور صحته. ورابعها، تهديده بالرحيل، لا سيما أنه "بدون" (un sans)، يعني من دون أوراق، ومن دون مسكن، ومن دون عمل. أما خامسها، فهو اكتشافه المفاجئ لمعنى أبوّته لفتاتين ولدتا من زواجه الذي ضاع، في غمار زعرنته و"هذيانه الماتشيست" بحسب قاموسه عندما يصف اعتقاده الدائم بأن زوجته لا تريد منه سوى هداياه الثمينة.

كل ذلك في الواقع جعله ينكسر أمام الحياة، وينتقل من العاصي إلى الباحث عن مسند يومي غالباً ما يجده في الحبس الذي لا يتوقف عن الحنين إليه. على أنه، وقبل انتهائه من سيرته، وإعطائه الكلام لكوكوريف، الذي سيخصص الفصل الأخير من كتابه لتعليق قيم حول من يسميهم (بعبارة ماكس فيبر الشهيرة) "مرذولي الرأسمالية" ، يختصر الختيار تقهقره بأنه صار، وفي حال رأى طفلاً يموت في الشارع، لا يهرع إلى إنقاذه، إنما يقفز إلى الجانب الآخر من الرصيف. ذلك، "أن عزالدين قد قرأ زرادشت". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها