الخميس 2019/03/07

آخر تحديث: 12:49 (بيروت)

في تحول الكتاب عن اجتماعه

الخميس 2019/03/07
في تحول الكتاب عن اجتماعه
قراءة في المترو
increase حجم الخط decrease
منذ فترة، بدأت ألاحظ أن الاجتماع على أساس الكتب صار عويصاً للغاية. فما عادت الكتب، قراءتها، التأثر بها، تشكل "مسند علاقاتي" بين مجموعة من الأشخاص. إذ إن هؤلاء، وفي لحظة ما، يفضلون الاجتماع حول فيلم أو مسلسل، أو على منصة تواصلية، أكثر من الاجتماع حول كتاب ما. ومرد هذا، ليس اقلاعهم عن القراءة، طبعاً لا، بل لأن الكتب بحد ذاتها تحولت، وصارت تصلح لتكون حواجز بينهم بعدما كانت تربطهم ببعضهم البعض.

عندما أستقل المترو، غالباً ما يثير انتباهي موقف بعينه، وهو موقف ذاك الذي يحمل كتابه، مركزاً عينيه فيه، في حين "انعصاره" بسبب زحمة الركاب حوله. عندها، تبدو هيئته صنمية، وغالباً ما تنقلب إلى هيئة مضحكة، لا سيما حين لا يزيح قيد أنملة لمن يريد النزول من المقصورة، بسبب تمسمره في الكتاب بين يديه. في هذا الموقف بالذات، يكشف الكتاب عن وظيفته في نكران المحيط، ونكران العلاقة معه، ونكران ضغطها، بالتالي، الكتاب، هنا، عضو من أعضاء الفرد في نسخته الرديئة.

يبين هذا الموقف تحول الكتاب عن إنتاج الاجتماع، على منوال كاريكاتوري. لكن، وقبل أن تصل الإبانة إلى كاريكاتوريتها هذه، أو بالتوازي مع وصولها هذا، من الممكن أن تحصل بالإنطلاق من سوق النشر بذاته. فها هي الكتب، التي تروج فيه، هي كتب تشترك، وبمعظمها، في أمر محدد: توجهها إلى القارئ بصيغة "أنتَ". هنا، في فرنسا، من السانح الوقوع شهرياً على كتب مكتوبة بتلك الصيغة، وآخرها كتاب جميل لفرنسوا بيغودو "حكاية حماقتك" والذي يقارع فيه البرجوازي اليساري، ويباع بالقرب من عشرات الكتب التي، ولأنها تتناول التطوير الذاتي (self develpement)، كُتبت بالصيغة نفسها. بهذا، يتكلم الكتاب مع قارئه مباشرةً، وفي بعض نصوصه، يتكئ إلى فعل الأمر، محاولاً أن يكون سلطةً، ومعتقداً بأنه الأكثر كفاءة لتسلمها. فصحيح أنه صار كغيره من الوسائط، أو أنه يطمح إلى التطابق معها من ناحية قدرته على صناعة قارئه الفرد، ليكون معلقاً به ولا يفارقه، إلا أنه لا يزال يجد نفسه أعلى قدراً منها، فهو على عكسها، يتمتع بتاريخ طويل.

يبدو أن هذا التاريخ اليوم يقفل دورته، من اللوح الطيني إلى اللوح الإلكتروني. وبهذا، يبدو صاحبه، أي الكتاب، في حاجة إلى تعدي هذه الدورة، والولادة من بعدها، محققاً الإجابة على السؤال الذي طرحه الشاعر الفرنسي جيروم غيم في العام 2010: كيف نطلع من الكتاب للرجوع إليه بطريقة أفضل، والعكس أيضاً؟ لقد سجل سؤال غيم حينها، تماماً، ككل الحديث الذي رافقه عن نقل الكتابة إلى خارج الكتب، شيئاً قريباً من موت الكتاب. ربما، هذا، ما يحيل إليه ذلك الشعور الذي يعتري زائر المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس، إذ تبدو كأنها متحف كتبي، بحيث أن الكتب، وما أن تولد، حتى تنتقل لتصير محنطة فيه، وبين ولادتها وتحنيطها، تلاقي حتفها وتنقرض. في أول المكتبة، على بابها، أو بعده بقليل، إذا صح التعبير الهندسي، هناك محل لبيع الكتب، لتغير موضتها، لتغير أسمائها، أفكارها، معلوماتها، خطاباتها. القديم منها ينتقل شيئاً فشيئاً من الواجهة إلى خلفها، ثم، إلى عمقها، وعدا عن وضعه في المكتبة الوطنية، في المتحف الكتبي، يوضع في المكتبة الأكاديمية، التي تشبه براد الموتى.

في هذا البراد، تعود الكتب إلى إنتاجها الاجتماع، لكن، هذه المرة، ضدها، أو "على جثثها"، كما يقال. فالأساتذة، والطلاب الذين يريدون أن يغدوا بدورهم أساتذة، يضعون الكتب على المنضدة أمامهم، ويفتحون جوفها، ويشرعون في النقل والتجميع بينها حتى يركبون كتباً مقفلة. كان لي صديق، عندما يعلن أن كتاباً ما سيء، يصفه هكذا: "إنه كتاب نصي". حين ألاحق أحياناً حركة إنتاج الكتب الجامعية، أجد أن تلك الصفة تنطبق على كم هائل منها: "إنها كتب نصية"، مؤلفة من تركيب نص مع نص، وفي أثناء ذلك، ذكر لإجراء التركيب الفاتر، وتشديد عليه درءاً لأي تعدي على حقوق الملكية الفكرية. حول هذه الكتب، تتألف ما تُسمى "الجماعة الإختصاصية"، التي، فعلياً، تتشكل على أساس انفراطها، ليس لأنها محكومة بالتنافس الذي غالباً ما ينفجر تشبيحاً، فحسب، بل لأن محورها، الكتاب، ليس حياً، ولا يمكنها أن تحييه أيضاً.

واحد من الأجواء، التي ولدت ونشأت فيه، هو الجو اليساري، وهذا الجو أدرك، في لحظة من اللحظات، كيف يعقد علاقة مع الكتب بوصفها تنتج اجتماعها، تنتج جماعاتها المنشقة عن مجتمع الكتاب الواحد والمنزل. لكن هذا الجو، وخلال فترة مراهقتي فيه، كان قد سجل، وكان لا يزال يسجل تحول الكتب وصولاً إلى موتها. فها هو جيل من هذا الجو، جيل ينتمي إليه والدي مثلاً، يمضي إلى التخلي عن كتبه بعدما اقنعه المندوبون بكون الموسوعات، التي درج ابتياعها في نهاية التسعينات، هي ليست "ويكيبيديا" الخاصة به فقط، بل أيضاً، أنها كفيلة بتزويده برأسمال ثقافي يحجز له مكاناً في مجتمعه المتبدل. فقد كانت هذه الموسوعات بمثابة ضماد وحشته. وها هو جيل آخر من بعده، يمضي الكثير منه، إما إلى صياغة علاقة فيتيشية، "فطاسية" على قول اللسان العربي، مع الكتب، تفيد بغرضيتها المتفاقمة، أو إلى ملازمة العلاقة التكديسية معها، التي تفيد بإمساكها المحال بعد انتقالها إلى "فساح جنانه". "فطّاسو" الكتب، ومكدسوها، يوفرون الدليل على كونها رحلت، لكنهم لا يريدون تصديق ذلك.

لطالما كانت الكتب المهمة هي التي تربط قرّاءها ببعضهم البعض، هي التي تجعلهم يمضون، سوية، إلى تجريبها في أنفسهم، في عيشهم، وعندها، لا يكونون قراء، بل شيئا آخر. فما إن يلتقوا فعلياً، حتى يكون مسندهم حاضراً بينهم. هذه الكتب صارت نادرة، ولا يمكن أن تنوجد بإشارة من أصبع بيل غيتس إلى بعض الكتب، محولاً إياها إلى كتب ممتازة. لا، تلك الكتب، وعندما تنوجد، تكون مهمة بقدر ما تكون خطيرة، خطيرة على مجال النشر قبل غيره. إذ تضع حداً بوجودها لاندثار كتاب، وتنبئ بولادة آخر، يذكر، ومن بعيد جداً، بالكتاب الذي حلم به مالارميه: "ليس موجوداً في الكتاب، ولا في العالم، ولهذا السبب بالذات، عليه أن يدمر العالم، وأن يتدمر" (جورجيو أغامبن).
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها