السبت 2019/03/23

آخر تحديث: 11:09 (بيروت)

"الكوميديا الخطيرة": الضحك في وجه الحياة والموت

السبت 2019/03/23
"الكوميديا الخطيرة": الضحك في وجه الحياة والموت
يدحض وثائقي لاري شارلز القول المأثور عن أن "الضحك دواء"
increase حجم الخط decrease
للكوميديا وجه مظلم، يُضمر تحت سطح النكات والسخرية، كثيراً من العنف والقسوة. يدخلنا المخرج والكاتب الأميركي لاري شارلز، صاحب أعمال "بورات" و"برونو"، إلى أعماق "عالم الكوميديا الخطيرة" في سلسلته الوثائقية الجديدة في "نتفليكس". في حلقاته الأربع، يعاين الوثائقي أنماطاً كوميدية ولدت من رحم الحروب والنزاعات، كما في العراق وليبيريا، أو الصراعات الإجتماعية كما في الولايات المتحدة والسعودية.

أداة علاجية، ولكن..
قد لا يُعتبر الموت موضوعاً ملائماً للنكات، لكن تراجيديا الحروب لطالما اختلطت بالكوميديا، حتى أضحت النكات وسيلةً مشروعة لمواجهة عبثية الموت العشوائي. يفصح العديد من الكوميديين الذين قابلهم شارلز، في مناطق شهدت صراعات دموية، بأن ممارسة الكوميديا كانت بمثابة علاج لهم من آثار الحرب التي استلبت كيانهم. لكن لممازحة الموت ثمنه، فبقدر ظلامية الحرب تكون الكوميديا سوداوية وفاقدة للحساسية.

ففي العراق مثلاً، تحوّلت السيارات المفخخة إلى موضوع برنامج مقالب كاميرا خفية. أما في ليبيريا، وهي إحدى الدول التي تعرّضت لحرب أهلية مفرطة في دمويتها، أضحت المقبرة مسرحاً لمجموعة من المقاتلين السابقين الذين اعتزلوا الحرب واختاروا الكوميديا.. والمخدرات. وسط القبور، وتحت تأثير الكحول والحبوب المخدرة، يسلّي هؤلاء الشباب الذين خاضوا الحرب منذ عمر الرابعة عشر، جمهوراً من الليبيريين الذين لم يتعافوا بعد من عنف الحرب. يبدو مشهد الكوميديين وهم يرقصون منتشين للهرب من ذكرى طفولةٍ مسلوبة أشبه بصورة كاريكاتورية عن مآسي الحرب، وهي صورة لا تبشر بالشفاء القريب.

وعلينا ألا ننسى أن لزعماء الحروب فكاهتهم أيضاً. يقابل شارلز زعيم ميليشيا ملقّب بـ"الجنرال عاري المؤخرة"، كان يظهر عارياً لإقامة طقوسه القتالية قبل الذهاب إلى المعركة. يسأله شارلز عن الدعابات التي كانت تتخلّل المعارك، فيروي له الجنرال عن الكوميديا الأحبّ إلى قلوب الجنود وهي "تحضير كمين للعدوّ". بالنسبة للجنرال وجنوده، النكتة والموت وجهان لعملة واحدة.



بين التحررية والفاشية
قد تستخدم الكوميديا كوسيلة "للإخلال بالنظام الاجتماعي"، وهو وصف ينطبق على "بونك" الكوميدي الأميركي الأسود، نجم السوشال ميديا الذي يقترف أكثر الأفعال والمقالب عبثية وحماقة، كالسرقة من المحال التجارية. ليست الكوميديا التي يصنعها "بونك" تقليدية، وقد يجدها الكثيرون منفرة وغير مضحكة، إلا أنها تختزل، برمزيتها، مسألة العرق في أميركا. فما يقوم به "بونك" هو "كوميديا تخيف البيض"، ومن فحواها السياسية المبطّنة تستمدّ مقالب "بونك" قوتها الفكاهية. 

لكن هذه الكوميديا تحوّلت، بحسب شارلز، من أداة تحدٍ بيد الأناركيين واليساريين إلى منصة لليمين المتطرف العنصري والمعادي للسامية. يقابل شارلز أحد نجوم السوشال ميديا من النازيين الجدد وهو الأميركي المعروف بـ"بايكد آلاسكا" الذي يجاهر بكرهه لليهود، وفي جعبته مخزون من النكات التي تسخر من "الهولوكوست". لكن الملفت كان استحضار "آلاسكا" لفيلم "بورات" الذي أخرجه شارلز زاعماً أنه أحد مصادر إلهامه، لما فيه من محتوى معادٍ للسامية. غاب عن ذهن "آلاسكا" الفاقد للنقدية، أن نكات شارلز المعادية للسامية في ظاهرها هي ساخرة بكل ما للكلمة من معنى، أي أنها تقصد عكس ما تقول تماماً. ذهِل المخرج، وهو يهودي الأصل، من هذه الشهادة، إذ أدرك أن هناك من يقارب نكاته بحرفيتها، مستخدماً إياها غذاءً لعنصريته وكراهيته.

النساء هن النكتة
في أحد أكثر البلدان قمعاً للمرأة وحقوقها، يبرز مشهد كوميدي رائداته نساء سعوديات يحاولن استغلال ما أتيح لهن من مساحة للخلق والبوح، ضمن حدودٍ ضيقة وقيود كثيرة. لكن الكوميديا، بإقتحامها الحياة اليومية، لديها القدرة على طمس هذه الحدود واجتياز القيود المفروضة على التعبير المباشر، لطرح قضايا إشكالية وذلك بوساطة النكتة. بحنكة، تستخدم الكوميدية السعودية حاتون قاضي الفكاهة لإنتقاد وصاية الرجل على المرأة في المجتمع السعودي، بالإضافة إلى مسائل كالزواج والمعايير المزدوجة إزاء جنسانية المرأة. وإضافةً إلى التمييز الذي تعيشه قاضي في مجتمعها، عليها مواجهة تمييز الكوميديا نفسها. فعلى مرّ التاريخ، كانت النساء الموضوع المفضّل للكوميديين، أو كما تقول قاضي "إن لم توجد المرأة لما وجدت كوميديا الـstand-up".

في جزءٍ آخر في العالم، ينتشر بشكل هائل نوع سوداوي من النكات هو "نكتة الإغتصاب". وعلى الرغم من كونها ظاهرة عالمية تستمدّ جذورها من ثقافة التسامح مع الإغتصاب، إلا أنها تتمتّع بشعبية فريدة في نيجيريا، حيث يعتبر الاغتصاب مادّة فكاهية تصلح لكل أصناف الإنتاج الإعلامي والترفيهي، وحيث يستميت الكوميديين الذكور، كأقرانهم من رجال الكوميديا حول العالم، في الدفاع عن حقهم في التعبير الحرّ غير المكبوح حتى عندما يتعلّق الأمر بتجارب قاسية كالإغتصاب. في المقابل، لا تجد النساء العاملات في الكوميديا نكات الإغتصاب طريفة أو مضحكة، ويفسّرن افتتان الذكور بها بكونهم لا يدركون معنى الإغتصاب.

يحفل الوثائقي بالتناقضات، مجسّداً ثنائية الكوميديا. فالنماذج التي تستعرضها السلسلة تضعنا أمام إشكاليات هامة: هل الكوميديا هي فعلاً أداة نقدية، تحررية، وعلاجية؟ أم أنها قد لا تتعدى كونها عارض مرضي، ووسيلة هروبية لا تسهم في مواجهة المأزق بل تسهّل التصالح والتكيف معه؟ وهل يمكن للكوميديا أن تتحوّل إلى أداة قمع وإضطهاد بيد القوي وضدّ الضعيف؟ يدحض الوثائقي القول المأثور عن أن "الضحك دواء" مؤكداً أن هناك مسارات متعدّدة يمكن للكوميديا أن تسلكها، ولا تؤدي جميعها إلى الشفاء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها