الأحد 2019/03/17

آخر تحديث: 10:06 (بيروت)

"نظرية المؤامرة" تقتل الضحايا مرتين في سوريا

الأحد 2019/03/17
"نظرية المؤامرة" تقتل الضحايا مرتين في سوريا
هل يمكن اعتبار تأييد الطاغية والترويج لنظرية المؤامرة أحد أشكال حرية الرأي
increase حجم الخط decrease
 
وصلني فيديو نزار علي بدر وهو يشكل التغريبة السورية بحجارة صافون، ويُبكي لجنة التحكيم في برنامج "آرابز غوت تالنت" على قناة "إم بي سي"، شاهدت الفيديو وتأثرت به، وتساءلت كيف لم أعرف هذا الفنان من قبل؟ وضعت اسمه على غوغل وفوجئت أن بدرًا من الموالين للنظام، شتم المتظاهرين علنًا، وظهر في أحد الفيديوهات بالزي العسكري، وحين دخلت صفحتي على الفيسبوك قرأت الكثير من الآراء المتضاربة، تتفاوت من اعتباره شبيحا يتاجر بمعاناة اللاجئين، إلى ضرورة فصل السياسة عن الفن والاعتراف به كنحات سوري مبدع، مرورًا بتعليقات تبدو حيادية بحديثها عن أخلاقيات التسامح.

أغلقتُ الفضاء الافتراضي وأنا أتساءل: هل يمكن حقًا أن نفصل ملف الهجرة واللجوء عن سياسة العنف المفرط التي اتبعها النظام السوري ضد المتظاهرين السلميين والمناطق الآهلة بالسكان؟ من أقحم الفن بالسياسة؟ وهل يمكن الحديث عن ثقافة مستقلة حين توضع جميع أشكال التعبير تحت عين الرقابة وطائلة الحظر؟ من نشر خطاب الكراهية؟ ومن عليه أن يعتذر للآخر، ويرجو الصفح، الذي طالب بحقه، أم الذي اعتدى على صاحب الحق وأساء إليه؟ 
أسئلتي عادت بي إلى بدايات الثورة السورية، إلى الوردة الحمراء ومشهد "سورية بدها حرية"، ثم اخترقني كابوس "بَدكِن حرية"، صورتان متناقضان تكشفان الفارق بين نبل الضحية وشراسة الجلاد، ولحظتان فارقتان، تعكس الأولى بداية القطيعة مع منظومة الاستبداد والتعبير عن الذات بعلنية وسلمية، وتشير الثانية إلى تكلفة العبور من السجن الرهيب إلى دولة المواطنة.

لم يفكر النظام الحاكم لحظة بالإصغاء إلى مطالب المحتجين، أو إجراء أية مراجعة نقدية جادة لمسيرته السابقة حقنًا لدماء السوريين، بل تمادى مع أعوانه بارتكاب الانتهاكات وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وكانت "نظرية المؤامرة" حاضرة في جميع خطب رئيس الدولة ومسؤوليها، تكيل تهم التآمر والعمالة على من يعتبرونهم إرهابيين وجراثيم يجب تطهير المجتمع منهم.

"نظرية المؤامرة" التي لا تعترف بالرأي الآخر وحق الاختلاف، تنطلق من عبادة الذات، واعتبار كل من لا يدور في فلكها خصم خطير، ولأنها تنشط على هذا النحو العدواني والإقصائي في كل مراحل التفكير والتحليل والاستنباط واتخاذ القرار، فهي لا تنتج سوى الخديعة وخطاب الكراهية والعنف، وتعيد إنتاج نفسها باستيلاد المزيد من الأوهام والأعداء والأحقاد والنزعات الانتقامية، وعلى هذا الأساس أصبح ابن البلد، بين ليلة وضحاها، خائنا وعميلا وإرهابيا ومطلوبا للأجهزة الأمنية لمجرد أنه شارك في التظاهرات السلمية، أو أيد مطالب المحتجين، أو أبدى أي شكل من أشكال التعاطف معهم أو مد يد العون لهم. 

لم يكن الوسط الثقافي بمنأى عما يجري، وتعرض المثقفون والمبدعون والإعلاميون الذين نزلوا إلى ساحة التظاهر، أو أيدوا الثورة السورية لأشكال كثيرة من التهديد والابتزاز والتأديب، بدءًا من قطع مصدر رزقهم، وحتى الملاحقة والاعتقال والقتل. شهدنا التضييق على الفنانة الراحلة مي سكاف، وفصل المخرج أسامة محمد من عمله، والاعتداء على الرسام علي فرزات، واقتلاع حنجرة المغني ابراهيم القاشوش، واعتقال الشاعر ناصر بندق، وإعدام خبير المعلوماتية باسل الصفدي، والاستيلاء على ممتلكات الفنان عبد الحكيم قطيفان، وقتل الصحافية لانا لافي بالبراميل المتفجرة، وسقوط المخرج باسل شحادة قتيلًا بنيران القوات النظامية، وجميعهم ليسوا من حملة السلاح، بل من أصحاب الرأي في قائمة طويلة تُعد بالآلاف.

في المقابل كان أدونيس الذي ينعم بالأمان في باريس، يطلق هجومه الكاسح على المتظاهرين الخارجين من الجامع، وكان الكثيرون من مثقفيّ الوطن ومبدعيه، يشككون بوجود الحركة الاحتجاجية، ويؤيدون نظرية المؤامرة والإرهابيين، ويظهرون تضامنهم مع القيادة الحكيمة، ويتفاخرون بولائهم للبوط العسكري، متجاهلين معاناة زملائهم وضحايا القصف والسجون.

هل يمكن اعتبار تأييد الطاغية والترويج لنظرية المؤامرة أحد أشكال حرية الرأي وحق الاختلاف؟ أم أنه سقطة أخلاقية، وإسهام في صنع الخديعة والافتراء على المعارضين؟ تحديدًا عندما يعبر عن موقف المثقف أو المبدع، نظرًا لكونه ليس مجرد حالة فردية، بقدر ما هو شخصية عامة، ذات صفة اعتبارية، بين جمهور يتلقى نتاجه، ويتأثر به.

إذا كانت حرية التعبير تكفل لأي كان أن يبدي ما يشاء من الآراء والمواقف، فهذا لا يعني أن أراءه صائبة، ومواقفه لا يشوبها الغبار، وأنه معفى من المساءلة الأدبية والقانونية إذا ما تقصد التضليل أو الإساءة والتشهير، فحق الرد مكفول ومصان دومًا، لاسيما حين يتعلق الأمر بقضايا الضمير، كما هو حال القضية السورية، حيث الميزان هو مدى المصداقية، والشرف في تعرية الجاني والدفاع عن الضحية. 
على هذا الأساس فقد المثقفون والمبدعون السوريون، الموالون والرماديون مصداقيتهم، وانحسرت نجوميتهم إلى حدود النظام وأتباعه من الممناعين، فيما استحوذ المنتفضون على اهتمام الإعلام الحر والرأي العام العالمي، حين قاوموا ببسالة لا نظير لها وحشية النظام، وأظهروا أفضل ما لديهم من خصال وثقافة وفنون، وكانت كلما اتسعت رقعة المساحة المحررة، كلما ازدادت ثقتهم بأنفسهم، وازداد عطائهم على المستويين الإنساني والثقافي.

بدأت الشبهات تحوم حول بعض قادة الفصائل المقاتلة، منذ اختطاف حسين هرموش من الأراضي التركية وتسليمه إلى النظام السوري، ثم ظهور التنظيمات الإسلامية المتشددة في المناطق المحررة، واختطاف رزان زيتونة وفريق "مركز توثيق الانتهاكات" في دوما، وبدأت إشارات الاستفهام تهز صورة الثورة السورية مع انتشار فيديوهات تنظيم "داعش" وهو يعدم الإعلاميين الأجانب، ويقر باغتيال ناجي الجرف في غازي عنتاب، ويتبنى العمليات الانتحارية في العواصم الأوروبية، مرورًا بأخبار احتجاز الناشطين وتعذيبهم في سجونه، وفي سجون "النصرة" و"قسد" وباقي الفصائل، وصولًا إلى اغتيال رائد الفارس في كفرنبل، وغيرها من الجرائم والانتهاكات التي أحدثت شروخًا في صفوف قوى الثورة والمعارضة، وأنعشت نظرية المؤامرة من جديد، لاسيما بعد أن استعاد النظام جل المناطق الخارجة عن سيطرته.

والحقيقة أن قوى الثورة والمعارضة غُلبت على أمرها، ودخلت متاهة التدخلات والتجاذبات الدولية والإقليمية، وباتت ضحية إرهاب الدولة وإرهاب الجماعات المتطرفة، منذ أن تغاضى المجتمع الدولي عن جرائم نظام الأسد، لاسيما بعد استخدامه السلاح الكيماوي ضد المدنيين، واليوم يجري إعادة تأهيل الرئيس، وإعادة تأهيل حاشيته المثقفة، وفيديو نزار ليس سوى نموذجٍ متقن الصنع لهذه العملية التي تهدف إلى قلب الحقائق، وخلط أوراق الجاني بأوراق الضحية، تارة باسم الاستقرار واللحمة الوطنية، وطورًا باسم السلمية والتسامح، وثالثة باسم القضاء على الإرهاب، فيما تستمر سياسة تكميم الأفواه والاغتيالات حتى في أوساط الموالين، وأولئك الذين دخلوا في التسويات، أو أُجبروا على العودة إلى حضن الوطن.

ما فائدة الاستقرار الذي يقوم على حطام البشر وخراب المدن؟ وما هذه اللحمة الوطنية التي أسستها العلاقات القهرية في بنى الدولة ومكونات المجتمع؟ ومتى أصبحت السلمية تعني التصالح مع الاستبداد والفساد؟ وهل تستدعي محاربة الإرهاب بقاء الطاغية والتغاضي عن تغوّل أجهزته الأمنية، أم تقتضي إحالة جميع الجناة إلى القضاء، وتعويض المنكوبين؟ ثم ما معنى التسامح قبل بلوغ مرحلة العدالة الانتقالية؟ سوى أن ندفن ذاكرتنا بين الانقاض والأشلاء، ونقتل الضحايا مرتين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها