الجمعة 2019/12/27

آخر تحديث: 12:20 (بيروت)

مستودع بيروت: عتق الملابس وتهكّمها

الجمعة 2019/12/27
increase حجم الخط decrease
قبل 17 تشرين الأول بأسبوع تقريباً، كنت قد أجريت حديثاً استفهامياً مع مؤسسة محل "depot-vente beirut" نوال عقل. لكن، وبحدوث الثورة، وانطلاقها، عمدت إلى تأجيل نشره، ليس بسبب الاهتمام بوقائعها المجيدة فحسب، بل لأن موضوعه، أي المحل اياه، بدا كأنه قد استحصل من بعدها على معنى آخر.

فالـ"ديپو"، ولمن لا يعرفه، هو محل لبيع الملابس العتيقة في بيروت، وفي مار مخايل النهر تحديداً، وقد ذاع صيته بين الشبيبة بسبب ترويجه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما انستغرام، بمرأى مختلف. إذ يعمد القيمون على إعلامه إلى تصوير ونشر صور وفيديوهات مع زبائنه لعرض ملابسه، وهذا، باستعادة عدد من اجوائها الكليشيهاتية، التي كانت تبرز في الأفلام أو في الكليبات، أو في العيش على عمومه خلال تسعينات وثمانينات القرن المنصرم. وهذه الاستعادة تتسم بأمر معين، هو التهكم على الأجواء نفسها، بحيث أن ممثليها لا يمشهدونها سوى بالمبالغة فيها او في ادعائها. وعلى هذا النحو، وفي حين يقدمون على الاستعادة، يجعلونها مادة للتهكم، أي، وبشكل من الأشكال، يرفضونها.

لكن، قبل ربط الاستعادة هذه، ورفضها، بسياقٍ، دمرته واقعة 17 تشرين الاول، لا بد من الإشارة إلى أن الـ"ديبو"، وفي الاساس، ليس بعيداً منها، بل إنه، فعلياً، انطلق منها، وهذا، من منحى سينمائي. إذ إن نوال عقل، وكما تقول في حديثها لـ"المدن"، كانت قد أطلقت مشروعها، أو بالأحرى مضت اليه بلا قصد من باب مساعدتها لصديقها المخرج وائل نورالدين، الذي طلب منها أن تختار ملابس ملائمة  لفيلم كان يصوره.

بعد ذلك، تكدست الملابس العتيقة هذه في شقتها، ولاحقاً، وجدت نفسها تهتم بجمعها وبيعها. طبعاً، اهتمامها هذا ينم عن صلتها بتلك الملابس، التي تشعر أنها  تتكلم معها، "فأنا أهتم بهذه الملابس لأن لكل قطعة منها حكايتها الخاصة، كما أن كل قطعة منها فريدة". هذا ما يؤكده زبائنها، وهم في غالبيتهم "في العشرينات أو الثلاثينات من العمر"، بحيث يجدون أنها ليست مجرد ملابس، إنما أحاسيس وذكريات، تجعلهم، وكما تشير عقل، على اتصال بحاضرهم.

من هنا، هذا" الحاضر"، لبنانياً، وقبل 17 تشرين الأول على وجه الدقة، وبفعل نظامه وعهده، ينتمي إلى الماضي، وهو بداية التسعينات. لهذا، كانت ارتداء ملابس الـ"ديپو" العتيقة تندرج في سياقه، كما أنها توائمه، لكن إظهارها بالتهكم، تبدو محاولة لمقاومته، بحيث تثبته، وبالفعل نفسه، تسعى، وعلى وسع مقدرتها، دحضه. لكن، في إثر 17 تشرين الاول، ما عاد هذا "الحاضر" ماضياً، وهو، وإن لم يصير حاضراً بعد ، فعلى الأقل، هو في مساراته إلى ذلك. بعبارة أخرى، الذين كانوا محكومون من النظام الساقط، صاروا، وفي إثر الثورة، أقرب إلى حاضرهم مما كانوا عليه من قبل، حين كان يعني "حاضرهم" ان يخضعوا  للماضي، أو بالأحرى ان يُحبسوا فيه. سقط" ماضي" النظام، وفلت منه الحاضر الذي كان مسجوناً داخله.


على هذا النحو، تبدل معنى ارتداء ملابس الـ"ديپو"، وما عاد، وفي الحاضر "الجديد"، إثباتاً للماضي، كونه هو "حاضر" البلد، وبالفعل نفسه، السعي إلى دحضه بالتهكم، إنما استوى على كونه أمراً آخر. إذ غدا ذلك الارتداء نقلاً للماضي إلى الحاضر، ليكون جزءاً من مرآه، "فلا أعتقد أننا، وعبر الارتداء العتيق، نريد أن نعود إلى الماضي، بل العيش في الحاضر مع كل مشاعر التي تثيرها قدامة الملابس"، بحسب عقل. على أنه، وفي إثر هذا، يتحول التهكم، الذي يرافق صور وفيديوات الـ"ديپو"، لا لكي يكون دحضاً للماضي، إنما مجرد استقبال له في الحاضر، لكي يمده بجماليته، أو بطريقة جمالية، بحيث أن العتاقة، وقبل أن تدل على الاسترجاع من الماضي، ترادف التمكن من أسلوب ما. فهل هذا يعني ان الحاضر بلا اسلوب؟ قبل 17 تشرين الأول، كان كذلك. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها