الثلاثاء 2019/12/24

آخر تحديث: 13:00 (بيروت)

الأراضي المقدّسة

الثلاثاء 2019/12/24
increase حجم الخط decrease
كما في كل عام، توافدت أعداد كبيرة من الحجاج إلى مدينة بيت لحم من شتى بقاع الأرض لزيارة مغارة الميلاد ولمس موقع ولادة يسوع، وتخطى عددها حاجز الثلاثة ملايين شخص. وقالت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية أنها كانت تعمل منذ عشر سنوات على تطوير لسياحة في فترة الاعياد فحسب، بينما يؤم الحجاج الاماكن المقدسة اليوم على مدار العام.

بحسب رواية الأناجيل، وُلد يسوع المسيح في بيت لحم، ونشأ في الناصرة، وعندما بلغ سن الثلاثين، اعتمد في نهر الأردن حيث نزل الروح القدس عليه، ثم انطلق يعلّم في كفرناحوم وفي أنحاء أخرى من الجليل. وتابع هذه المسيرة، ودخل أورشليم وسط الهتاف، ثم أعدّ رُسُله للمهمة العظمى التي تنتظرهم، وسار معهم إلى قرية يُقال لها جثسيماني، ومضى ليصلّي هناك. وجاء جمع من عند رؤساء الكهنة، فأمسكوا به ومضوا به لمحاكمته، وقادوه في الصباح إلى بيلاطس البنطي الوالي، وطالبوا بصلبه. وساروا به إلى موضع يُقال له جلجثة حيث صلبوه، ولما أسلم الروح، أُنزل عن الصليب، ودُفن في بستان يقع في الموضع الذي صُلب فيه.

قام المسيح من بين الأموات في اليوم الثالث، وظهر لتلامذته مرارًا خلال أربعين يومًا، وأوصاهم بالروح القدس ليعزّيهم ويرشدهم ليكونوا شهودًا له، منطلقين من أورشليم إلى أقاصي الأرض، ثم صعد إلى السماء عند جبل الزيتون، في نواحي أورشليم، بعد أن وعدهم بأن يكون معهم إلى انقضاء الدهر. وفي اليوم الخمسين، وبينما كان الرسل مجتمعين معا بنفسٍ واحدة في أورشليم، حلّ الروح القدس عليهم، وراحوا يتكلمون بألسنة عديدة كما وهبهم الروح أن ينطقوا، وانضم إليهم ثلاثة آلاف نفس. هكذا وُلدت الكنيسة في أورشليم، أي في القدس، وقد عُرفت هذه المدينة في الكتاب المقدّس بأكثر من اسم، أشهرها أورشليم، وهو اسم قديم ورد في نقش مصري يعود الى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ومعناه "أساس السلام" أو "أساس الإله شاليم".

في "معجم البلدان"، يذكر ياقوت الحموي اسم "أوريِشَلِمَ"، وهو بحسب تعريفه "اسم للبيت المقدس بالعبرانية"، وهذا الاسم كان معروفاً في جزيرة العرب قبل الإسلام كما يُستدلّ من قول الأشعري في شعره: "وطَوفتُ للمال آفاقَهُ/ عُمان فحِمص فأوريشلم". وفي "لسان العرب"، ورد هذا البيت مع تعديل بسيط في اللفظ: فحِمص فَأُورَى شَلَم"،ْ "والمشهور أُورى شَلَّم"، "وهو اسم بيت المقدس". في العالم الإسلامي، حلّ اسم إيلياء مكان اسم أورشليم، وقيل إن معناه بيت الله، كما أشار ياقوت الحموي مستشهداً ببيت من شعر الفرزدق: "وبَيتان بيتُ الله نحن وُلاتُهُ/ وقَصر بأعلى إيلياءَ مُشَرف"، وإيلُ في "لسان العرب" اسم "من أسماء الله عزّ وجلّ عبراني أو سرياني". أمّا في العالم المسيحي، فقد ظلّ اسم أورشليم حيّاً، وعُدّت كنيسة أورشليم هي الكنيسة الأمّ لليهود الذين دخلوا في المسيحية أولاً، ثمّ للعالم المسيحي كله حيث عُرفت بـ"أمّ الكنائس".

في بداياتها، نمت هذه الكنيسة الناشئة على أيدي الرسل، وقفز عدد أعضائها في ذلك الزمن من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف (أعمال 4: 4). ثم دخلت في مرحلة عصيبة بعد بضعة عقود، واضطر أتباعها إلى الانتقال إلى مدينة بيلا التي تُعرف اليوم ببلدة طبقة فحل، في لواء الأغوار الشمالية. فقدت كنيسة أورشليم بريقها بسبب تحول الأوضاع السياسية، غير أنها عادت واستعادت مركزها الريادي في القرن الرابع حيث اتجهت أنظار المسيحيين إليها من مختلف الأقطار. شرع أوسابيوس أسقف قيصرية فلسطين بالبحث عن "الأماكن المقدسة"، ورأى أن فلسطين هي المكان الوحيد في العالم الذي يمكن التحدُّث عنه كموطئ قَدَم الله، واستعاد القول الشهير "لندخل إلى مساكنه، لنسجد عند موطئ قدميه" (مزمور 132: 7). ساد هذا الاتجاه من بعده بسرعة كبيرة، وصار الحجُّ إلى الأماكن المرتبطة بحياة المسيح عادةً وتقليداً شعبياً انتشر في كل أنحاء العالم بعد أن تبنّاه الإمبراطور قسطنطين.


عاصر أسقف قيصرية فلسطين هذه المسيرة ونقل أخبارها في كتابه "حياة قسطنطين العظيم". اختار الإمبراطور المسيحية ديانة له، ورأى وهو يصلي "صليبا من نور في السماء، فوق الشمس"، مع كتابة تقول "بهذا تغلب"، فصنع راية الصليب، وأمر بأن تُرفع على رؤوس كل جيشه، وأصدر أمراً بإقامة بيت للصلاة في المكان المقدّس الذي شهد قيامة المسيح، "ولم يفعل هذا بباحث من تفكيره الشخصي بل لأن المخلّص نفسه حرّك روحه". وأمر بالكشف عن "هذا الأثر المبارك المقدس"، ثمّ "أمر ببناء بيت للصلاة في غاية الفخامة، يليق بعبادة الله، وذلك بجوار قبر المخلص"، "وأعطى الأوامر لحكّام الأقطار الشرقية ليبذلوا كل ما في وسعهم للإنفاق بسعة حتى يتم البناء بغاية الفخامة"، وطلب بأن يفوق هذا البناء كل كنائس العالم. بعد ذلك، عمد الإمبراطور إلى الكشف عن المكان الذي شهد ميلاد المسيح، والمكان الذي شهد صعوده إلى السماء، وأمر بإقامة كنيسة في بيت لحم وأخرى في جبل الزيتون، وزيّنهما بمنتهى الفخامة، وخلّد بذلك ذكرى أمه هيلانة التي أسرعت "لتجوب في هذه الأراضي المباركة، بالرغم من تقدم سنها"، "وقدّمت الإكرام اللازم للأرض التي وطأتها قدما المخلص"، "وخلفت ثمار تقواها للأجيال القادمة"، و"كرّست كنيستين لله الذي كانت تعبده، واحدة عند المغارة التي شهدت ولادة المخلص، والأخرى على جبل صعوده". 


في القرن الثالث، كانت فلسطين مقاطعة منسية على هامش الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية الضخمة، وتحوّلت في القرن الرابع إلى موقع مركزي في هذه الإمبراطورية. بدأ العهد البيزنطي في الأراضي المقدسة، حين نقل قسطنطين عاصمة الإمبراطورية الرومانية إلى آسيا الصغرى حيث أنشأ "روما الثانية" التي حملت اسمه، واستمرت هذه الحقبة ثلاثة قرون عرفت فيها فلسطين الازدهار الاقتصادي والتمدّد السكاني الكبير. توافد الحجّاج المسيحيون بأعدادٍ كبيرة إلى هذه البلاد، واستقرّ بعضهم فيها لتأسيس مجتمعات مسيحية حول أورشليم، وشرعوا في تشييد العديد من الكنائس، وفتحوا الطريق أمام الراغبين في زيارة كل المواقع الإنجيلية، واسّسوا طقوساً في كلِّ موقع من هذه المواقع. اتّسعت رقعة الأراضي المقدسة وحوت مزارات تحمل أسماء الأنبياء الذين بشّروا بالمسيح ومهّدوا لقدومه، وبات للكتاب المقدس خريطة طوبوغرافية خاصة بالمواقع التي ذُكرت فيه.


بحسب الروايات اليهودية، خلق الله العالم انطلاقا من نقطة مركزية في الوسط تشغلها صخرة تُعرف باسم صخرة التكوين، وهي الصخرة التي غدت "الصخرة المشرفة" في الإسلام. على هذه الصخرة أُسّس الهيكل الذي حوى تابوت العهد. واحتلّ هذا الهيكل وسط هيكل سليمان القائم في وسط أورشليم، في وسط فلسطين التي تقع في وسط العالم. ورثت المسيحية هذه الروايات، وكرّستها انطلاقا من سلسلة من الآيات الكتابية، ومنها: "والله ملكي منذ القدم، فاعل الخلاص في وسط الأرض" (مزمور 74: 12). "في ديار بيت الرب، في وسطك يا أورشليم. هللويا" (مزمور 116: 19). "هكذا قال السيد الرب: هذه أورشليم. في وسط الشعوب قد أقمتها وحواليها الأراضي" (حزقيال 5: 5). "وستترك الأمم أصنامها وترحل إلى أورشليم فتقيم بها" (طوبيا 14: 8). "في ذلك الزمان يسمّون أورشليم كرسيّ الرب، ويجتمع إليها كل الأمم، إلى اسم الرب، إلى أورشليم، ولا يذهبون بعد وراء عناد قلبهم الشرير" (أرميا 3: 17). اكتملت هذه النبوءات بمجيء المسيح، وتحقّقت بقيامته "في وسط الأرض"، كما جاء في سفر زكريا: "هكذا قال الرب: قد رجعت إلى صهيون وأسكن في وسط أورشليم، فتدعى أورشليم مدينة الحق، وجبل رب الجنود الجبل المقدس" (8: 3). "فتأتي شعوب كثيرة وأمم قوية ليطلبوا رب الجنود في أورشليم، وليترضّوا وجه الرب" (8: 22). "ابتهجي جدا يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور وديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان" (9: 9).


أضحت فلسطين منذ ذلك العهد قلب "الأراضي المقدسة"، وباتت المدينة التي شهدت موت المسيح وقيامته سرّة العالم كله. في القرن السابع، دخلت هذه البلاد في كنف الخلافة الأموية، ثم عاشت سلسلة من المحن، وبلغت هذه المحن ذروتها في عهد الخليفة الحاكم بأمر الله الذي ألحق الخراب بعدد كبير من كنائسها، ومنها كنيسة القيامة. هدأت الأوضاع في عهد الظاهر لدين الله حيث قام الإمبراطور قسطنطين التاسع بمدّ يد العون لبناء كنيسة القيامة والمزارات المقدسة الأخرى. اضطربت الأمور بشكل كبير مع دخول الفرنجة للاستيلاء على الأراضي المقدسة بدعم من البابا والكثير من أمراء وأشراف الغرب. عاشت فلسطين في تلك الحقبة عصر الشدائد الكبرى، غير ان صورتها لم تتغير. نقل ياقوت الحموي عن ابن عباس قوله: "البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء، ما فيه موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبيٌ أو قام فيه ملَك". واستعاد تاريخ المدينة منذ فتحها أيام عمر، وتحدث عن نزول الإفرنج عليها، وختم حديثه بقوله: "وهذا كافٍ في خبرها وليس كلما أجده أكتبه، ولو فعلت ذلك لم يتّسع لي زماني".

قضى المماليك على الفرنجة بشكل نهائي في نهاية القرن الثالث عشر، غير ان الصراع على الأراضي المقدسة استمر ولو بشكل مختلف، حيث سعت كل كنيسة من الكنائس الشرقية والغربية إلى الحصول على موقع لها في الأرض التي عاش فيها المسيح والرسل، وتواصل هذا الصراع المسيحي في العهد العثماني الطويل. على مرّ هذه العصور، بقيت فلسطين قلب "الأراضي المقدسة" في الذاكرة المسيحية، واتّحّدت صورة القدس الأرضية بصورة القدس الآتية، تلك التي رآها يوحنا اللاهوتي "نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها" (رؤيا 21: 3). 


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها