الأحد 2019/12/15

آخر تحديث: 11:33 (بيروت)

"حركة الوعي" لأنطوان الدّويهي.. "الخلاص" الذي قتلته الحرب

الأحد 2019/12/15
"حركة الوعي" لأنطوان الدّويهي.. "الخلاص" الذي قتلته الحرب
تبقى حركة "الوعي" صفحة بيضاء في تاريخ لبنان
increase حجم الخط decrease
في معرض استعادته زمن "حركة الوعي/ هل كانت هي الطريق لخلاص لبنان؟(*)" بالوقائع والمستندات والصور والمرويات، بدا الشاعر والروائي أنطوان الدّويهي، الذي كان رئيساً للحركة على مدى ست سنوات (1969 – 1975)، كأنه على رأس (الحركة) لكنه أشبه بالمنفصل عن شجونها الحياتية... كان لديه طبعه الخاص في العمل السياسي، يهتم بتوجه الحركة العام ووثائقها ومؤتمراتها السنوية، ولا يشارك في عملها الميداني ولا بتحركاتها "كنت قليل الظهور الإعلامي" يقول، "لم أكنْ أحبّ الاجتماع بالشخصيات السياسية والإدارية، كالوزراء والنواب والمديرين العامين وسواهم". واذ لم يكن يشارك شخصياً في التظاهرات والاعتصامات والتجمعات الاحتجاجية، وكان شديد الاهتمام بها، وتحضيرها، تنظيمها ومتابعاً لها، فـ"لحفظ مسافة معينة بين رئاسة حركة الوعي ومجريات الأحداث. كنت أضع نفسي في دائرة من الظل تلفني وتبعدني، بينما أنا في قلب الأحداث"، كأن الرئاسة وجدتْ لتكون "مقاماً" لدى الحركة الطالبية الناشئة والفتيّة. 

الأرجح أن أنطوان الدويهي طبع الرئاسة بطبعه، وتعامل مع الواقع السياسي بشيء من "اللاهوتية السياسية" إذا جاز التعبير، بشيء من روحية الشاعر الغاضب. فهو يرأس حركة تعمل في السياسة الجامعية على الأقل، لكنه يقول "لا أهوى مُحترِفي السياسي وأهل السلطة، ولا أحب مجالسهم"، ويرفض وضعه في خانة "الارستقراطي" أو "الاستعلائي"، ويعتبر نفسه شخصاً متواضعاً، يمقت "الترف" وينظر "الى الجميع نظرة انسانية متساوية" يتصرف "مع الملك"، مثلما "يتصرف مع الشحاذ" ويحب الفقراء والضعفاء. والحال أن "طقس" أنطوان الدويهي في السياسة والعمل السياسي، انعكس في سرديته وحواره، فوجدنا فيها الجانب التنظيري والرؤيوي والوثائقي والأحداث العامة المعروفة، سواء السياسية أو الطلابية، وغاب الجانب الحياتي واليومي، غابت الكواليس والمناكفات بما هي ذاكرة مرحلة جاذبة لمن يريد أن يعرف أسرار كليّة التربية التي، أفرزت عشرات الشخصيات في الشأن الثقافي والسياسي والتربوي. 

التاريخ أو السرد الذي قاله الدويهي، أتى "من فوق" قال لي أحدهم، وبدا أن حركة "الوعي" تحتاج كتاباً آخر يروي جوانبها الحياتية لتكتمل صورتها، سواء جلسات المقاهي أو السجالات الإعلامية أو حتى المزاجية والشخصية. لأي عارف بتاريخ "حركة الوعي" حين يقرأ الكتاب، لا بدّ ان يسأل أين دور الشاعر بول شاوول فيها؟ أو عقل العويط أو عصام خليفة أو أنطون سيف؟ حتى حين أراد الدكتور أنطوان الدويهي، الحديث عن بعض التباينات بين أعضاء الحركة وتأثير حزب "الكتائب" في البعض منهم العام 1971، ثمّ تأثير الحزب الشيوعي في البعض الآخر العام 1975، هذا الأمر بقي مبهماً. لم يخبرنا كتاب أنطوان الدويهي ما الذي كان يريده عصام خليفة مثلاً، ولم نعرف السرّ الذي جعل يسارياً مثل ملحم شاوول ينتخب حركة "الوعي"؟ وثمة أمور كثيرة في الصراعات الطلابية والمنافسات بين مجموعاتها بقيت غائبة... أحسب أن كتاب حركة "الوعي" هو رؤية صاحب "كتاب الحالة" للسياسة وعلاقته بها، بدءاً من علاقته بحركة الوعي مروراً بعلاقته بالثقافة والحرية والشعر وأنسي الحاج وأدونيس، وصولاً إلى نضاله البيئي في زغرتا والشمال، وحتى سعي بعض اصدقائه إلى ترشيحه للانتخابات النيابية العام 2005... 

وحركة الوعي التي يرفض الدويهي تصنيفها بـ"اليمينية"، وصنفتها جريدة "النداء" الشيوعية في خانة "اليمين الذكي، الأخطر من اليمين الغبي"، ووصفتها جريدة "العمل" الكتائبية بـ"اليسار المقنّع، الأكثر خطورة من اليسار السافر الوجه"، وكان يطلق عليها العديد من الكتّاب الماركسيين والعروبيين تسمية "الانعزالية الجديدة"، ولدت في مرحلة عندما بدأ لبنان يرزح تحت وطأة اتفاق القاهرة العام 1969، وماتتْ أو تلاشتْ أو حُلّت مع بدء الحرب الأهلية 1975.

وما بين التاريخين، شهد لبنان تحولات وتغيرات وأحلام كبيرة وموجات عنف وكوابيس في البلد الصغير. كانت للماركسية فروعها، الصينية الماوية، والسوفياتية الستالينية، والغيفارية والكوبية، والسارترية الوجودية. وكانت للعروبة فروعها الناصرية والبعثية والعرفاتية والقذافية، وللبنانية فروعها الكيانية والقومية والثقافية والفيروزية، وهي التي كانت بين السلمية أو التي تدعو الى العنف الثوري الممجد بالشعر والقصائد. كذلك صعدت مجموعة من الشخصيات الدينية والفكرية على وقع هزيمة حزيران. وسط هذا كله، كانت حركة "الوعي" خارج سياق المشاريع الضخمة، والاقليمية، فهي "ظاهرة غريبة تماماً عن القوى والصراعات السياسية المعهودة وخارجة عن حدودها". تتخطى "ذلك التركيب المتوارث، بثوابته وتصنيفاته وتوجهاته". ومع ذلك يقول الدويهي: "نحن لم نكن موضوعين في أجواء الحرب. كنا نعيش في عين العاصفة من دون أن ندري"، وأتت الحرب التي أدخلت أحزاباً في جهنمها وأجهضت مجموعات سياسية فتية، بينها من يدعو الى السِّلم كحركة "الوعي"، أو من يدعو الى العنف كبعض الحركات اليسارية... 

وعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على حلّ حركة "الوعي"، ما زال أنطوان الدّويهي يعتبر أن "الرؤى والمبادئ والقيم والمضامين الفكرية وأشكال الممارسة وأدواتها واخلاقياتها، التي أرستها حركة الوعي، هي الطريق الوحيد لخلاص لبنان"... و"لولا اصطدامها بحرب 1975، لكان هناك الكثير من الأمل بأن تتسع حركة الوعي وتتطور، بحيث تحقق هدفها في بناء حركة تغيير وطنية لبنانية كبرى"... وأحسب أن معظم الأحزاب اللبنانية تتحدث بلغة "لولا... كذا"، وتروي ملاحم عن أحلامها "المعلقة"، فاللغة الخلاصية المهدوية حاضرة بقوة لدى معظم الأحزاب القومية والأممية والإسلامية والليبرالية. يقول القومي السوري: لولا إعدام سعادة لكان خشبة خلاص لسوريا. ويقول اليساريون: لو نُفّذ "البرنامج المرحلي للحركة الوطنية" لكان رسا بلبنان الدولة العادلة. ويقول الكتائبيون: لو بقي بشير على قيد الحياة... من السهل التنظير لخلاص لبنان، والخلاص بمعنى أن يكون وطناً نهائياً مستقراً تحكمه القوانين والدستور. لكن، في الوقائع، نجد أن تعقيدات لبنان المحلية والإقليمية من تعقيدات الكون.

ثمة نقطة ينبغي الإشارة إليها، وهي أن أنطون الدّويهي يبرر انتشار حركة الوعي بين المسيحيين، بأن السبب يعود إلى تأسيسها في أماكن انتشار "الفكرة اللبنانية". وأحسب أن أماكن انتشار "الفكرة اللبنانية"، كانت أيضاً موئل تأسيس معظم الإيديولوجيا التي يقول الدويهي إن حركة الوعي تختلف عنها. فالحزب الشيوعي الأممي تأسس في منطقة الحدث المسيحية، والحزب السوري القومي الاجتماعي أيضا تأسس في "المناطق المسيحية" في الأساس، وكذلك فكرة القومية العربية في بداياتها كانت عند المسيحيين اللبنانيين، قبل أن تضيع في مستنقعات المشاريع الانقلابية والقُطرية... وهذا جانب آخر ينبغي نقاشه.

وبغض النظر عن النقد والآراء، الّتي تبقى مفتوحة للنقاش، وأنماط السرد وطرق رؤية الماضي والذاكرة، تبقى حركة "الوعي" صفحة بيضاء في تاريخ لبنان، على الأقل أنتجت جانباً من ثقافته، ولم تذهب الى المتاريس والخنادق والعنف، وهذا يتجلى بقوة في شخص أنطوان الدّويهي وثقافته ولغته.

(*) حاورته أورنيلا عنتر، وصدر عن الدار العربية للعلوم ودار المراد (بيروت- 2019).
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها