السبت 2019/11/09

آخر تحديث: 13:09 (بيروت)

الثورة باعتبارها "مبسوووطاااع"

السبت 2019/11/09
الثورة باعتبارها "مبسوووطاااع"
مسيرة التيار الوطني الحر وجبران باسيل في طريق قصر بعبدا (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
حين صرخت العونية جيهان خوري "مبسوطاااع" على الهواء التلفزيوني، كانت تبغي الرد على المظاهرات الثورية السابقة على المسيرة التي أعدها تيارها دعماً لجنراله وصهره. ففي تلك المظاهرات، ولأنها كانت خروجاً من النظام الساقط، بدا الانبساط، بما هو إفلات للقدرة المقيدة، من سماتها. أرادت خوري القول إنها هي أيضاً، وكمؤيدة لرئيسها، أو بالأحرى لرئيسيها، "مبسوطة"، وليس منذ أيام كالثوار، بل منذ سنوات طويلة. فقد أبدت خوري ذاتها "مبسوطاااع" لكي تثبت أن النظام يُبسط قبل الثورة، وإن صارت هذه الثورة مجال انبساط، فلا يعني أنها لا تنقطع عنه، بل إنها، وعلى العكس، مشابهة له، أو بالأحرى تتمدد منه، وفي هذا، تتطابق معه.

سرعان ما صارت صرخة خوري نكتة في الثورة، وقد استفهم منها الثائرات والثوار عما كانت لا تزال، وبعد استمرار المظاهرات، "مبسوطاااع". وفي حين كانوا يفعلون ذلك، كان ثمة حديث يتألف، ويحاول الدوران بينهم، لكي يمضي إلى شد الذين يخاطبهم نحو ثورتهم. ومن أجل أن يحقق هذا، أوقف كل الثورة على أمر واحد، وهو الإنبساط: انظروا إلى هذه الثورة الـ"مبسوطاااع". في الواقع، انبساطها، وكما سبقت الاشارة، صنعه انطلاق البروليتاريا في تحريرهم لقدراتهم من قيود النظام، بحيث أن خروجهم من رجائه الاعتقالي كان، وككل خروج، نائراً ومشرقاً وبرّاقاً.

لكن ذلك الحديث، ولكي يشير إلى انبساط ثورتهم، مجمداً اياها عليه، فلا بد أنه لا يصدر من داخلها، إنما على مسافة تفرُّجية منها. على مسافةٍ، تسمح بالتقاطها ثم عرضها على شاشة ما. وهي، هنا، شاشة مجتمعية ترتفع أمام عيون تحملق فيها: عيون البرجوازية المفتعلة، لا سيما الصغيرة منها. فالحديث اياه ينطوي على بغية محددة، وهو أن يصاحب هذه البرجوازية في اكتشافها الثورة، في تعرفها عليها، وفي اكتشاف خائضيها، وفي التعرف عليهم. ولهذا، يحاول تقديمها لها على أساس الاجراء الأساس لعيشها، اي الاستهلاك: هيا، استهلكيها! الا أن البرجوازية تلك، ولكي تفعل هذا، لا بد أن يعمد الحديث الى جعل الثورة غرضاً لاستهلاكها ذلك؟ وبالتالي، يوقفها على انبساطها، لتغدو معروضاً مبسوطاً، وفي الوقت نفسه، مُبسطاً: استهلكي أيتها البرجوازية هذه الثورة المبسوطة لكي تنجزي انبساطك.

في الواقع، هذه العلاقة مع الثورة، وإن ظهرت في حديثها المكتوب، تبرز في المُصور منه، بحيث أن التصويرات، التي يلتقطها بعض فناني البرجوازية المفتعلة للثوار البروليتاريين، تبديهم، بأجسادهم، على منوال فطاسي بامتياز (فيتيشي). لكن، بعيداً من إنتاج ذلك الحديث وسائطياً، فالعلاقة التي يقرها مع الثورة تدور حول مشكلة محورية، لا تتعلق بتشويه الثورة، أو باختراقها، لكن بالبرجوازية نفسها. ففي لحظة الثورة، وفي حين ان هذه البرجوازية مفتعلة، فهي، وبالركون إلى تلك العلاقة، تصير مفتعلة أكثر فأكثر. فبدلاً من أن تحدث الثورة فيها صلة مباشرة بحالها البروليتارية، أي بوضعها كمُبرتَلة، متقبلةً وممارسةً اياه، تمضي الى المواظبة على انكاره أو كتمه، وإلى التمسك بأوهامها التي تكفل ذلك. باختصار، تزداد هذه البرجوازية افتعالاً، وتفاقُم افتعالها ينسحب على تثورها. فلأن الثورة، وفي ظنها، مجرد عرض للإنبساط، يجب عليها أن تنبسط كي تنخرط فيها. فتجد في ذلك الحديث أمراً موجهاً إليها، وهو، لا أن تخوض الحدث، بل أن تؤديه على أساس المعروض منه عليها: هذه هي الثورة أيتها البرجوازية، "اعملي متلها".

وهذه الـ"اعملي متلها" ترادف "اعملي متلهم"، اي كالبروليتاريين، وهذا، بعدما نمّطهم الحديث لها. وإن كان هناك توقيع لتنميطه هذا، فيكون السُّباب. إذ يغدو الأمر الموجه إلى البرجوازية المفتعلة: "أشتمي مثلهم"، وهذا، لكي تؤكد انها التحقت بالثورة. لكن، ماذا يحصل حين "تعمل متلهم"، حين تحول كل ما يفعله البروليتاريون إلى مجرد موضوع لمحاكاتها لهم، لمحاكاتها التي تحقق لها الانبساط، أي حين تتكلم، تشتم، ترقص، تتحرك مثلهم، جاعلة من كلامهم وشتمهم ورقصهم وحركتهم مجرد سبل إلى الانبساط أو مجرد مقالب له؟ طبعاً، أن "تعمل متلهم" فيعني انه يتوجب عليها ذلك، يعني أنها مجبرة عليه لكي تعلن "أنها ثورة"، يعني يجب أن تنبسط، أن تكون "مبسوووطاااع". الا أن هذا الانبساط هذا، ومثلما أرادته كمعروض، له حدود، وبالوصول اليه، ثمة شيء يحصل، وهو الاكتئاب. إذ إنه، وفي هذا السياق، بمثابة دليل على أن انبساطها قد بلغ حده، انها اكتفت، أنها ما عادت قادرة على الرغبة، أن رغبتها في الثورة قد انتهت، أو بالأحرى دُمّرت. علامة على ذلك، أن السّباب، وعلى اثر البدء بالانتقال من الانبساط إلى الاكتئاب، يصير افتعاله نزوعياً خالصاً، تنكيلياً، أو تمثيلياً (التمثيل بمعنى التنكيل والعكس صحيح أيضاً).

على هذا النحو، تحمل الـ"اعملي متلهم" الى الاكتئاب بعد استهلاك الثورة، بعد الانبساط بخائضيها، ولاحقاً، تفضي إلى الانسحاب. فالثورة، التي عمدت البرجوازية المفتعلة إلى تأديتها، لا تعود مرغوبة، أو بالأحرى تظل مرغوبة، لكن لا طاقة لتلك البرجوازية، ولا قدرة عليها. وهكذا، لأن الثورة، وفي الاساس، ليست معروضاً "مبسوطياً"، ولأن الانبساط فيها تحرير للقدرة، وليس فرضاً عليها، ولأنها حية، ومتعددة، ومتبدلة، ورحبة، لا تستطيع تلك البرجوازية المكتئبة أن تحتمل استمرارها، لا سيما أنها تحيلها إلى انعدام وسعها اتجاهها. من هنا، قد ترمي إلى إثباطها، إلى الانتهاء منها. ومن هنا، قد ترمي الى استعادة نظامها، لكي تكون "مبسوووطااااع" من جديد. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها