السبت 2019/10/12

آخر تحديث: 13:11 (بيروت)

أين اجترح المسيح معجزة تكثير الخبز والسمك؟

السبت 2019/10/12
increase حجم الخط decrease
تحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخرا عن اكتشاف أرضية من الفسيفساء تزيّن أطلال كنيسة بيزنطية في موقع مدينة هيبوس في الجولان. وأثار هذا الاكتشاف الجديد كبار المختصين بالفنون المسيحية، ذلك ان يحوي عنصراً تصويرياً استثنائيا يتعلّق بشكل مباشر بمعجزة إطعام الجموع التي يُشار اليها كذلك بمعجزة تكثير الخبز والسمك. بحسب الرواية المتناقلة، جرت هذه المعجزة في قرية الطابغة التي تقع على الشاطئ الشمالي الغربي لبحيرة طبريا، شمالي فلسطين. غير أن هذا الاكتشاف الحديث يوحي بأنها جرت في هيبوس، على بُعد كيلومترين من الشاطئ الشرقي لهذه البحيرة.  

ورد ذكر معجزة تكثير الخبز والسمك في الأناجيل الأربعة بشكل متقارب. بحسب شهادة كل من متى (14: 13-21)، مرقص (6: 30-46)، لوقا (9: 10-17)، أراد يسوع أن يختلي بنفسه بعد سماعه بمقتل يوحنا المعمدان، "فانصرف في سفينة إلى موضع خلاء منفردا. فسمع الجموع وتبعوه مشاة من المدن. فلما خرج يسوع أبصر جمعا كثيرا فتحنن عليهم وشفى مرضاهم. ولما صار المساء تقدّم إليه تلاميذه قائلين: الموضع خلاء والوقت قد مضى، اصرف الجموع لكي يمضوا إلى القرى ويبتاعوا لهم طعاما. فقال لهم يسوع: لا حاجة لهم أن يمضوا، أعطوهم أنتم ليأكلوا. فقالوا له: ليس عندنا ههنا إلا خمسة أرغفة وسمكتان. فقال: ائتوني بها إلى هنا. فأمر الجموع أن يتكئوا على العشب. ثم أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين، ورفع نظره نحو السماء وبارك. وكسر وأعطى الأرغفة للتلاميذ، والتلاميذ للجموع. فأكل الجميع وشبعوا. ثم رفعوا ما فضل من الكسر اثنتي عشرة قفة مملوءة. والآكلون كانوا نحو خمسة آلاف رجل، ما عدا النساء والأولاد. وللوقت ألزم يسوع تلاميذه أن يدخلوا السفينة ويسبقوه إلى العبر حتى يصرف الجموع (متى 14: 15-22).

يستعيد يوحنا هذه الرواية في انجيله حيث تلي معجزة شفاء المخلّع يوم السبت في أورشليم، ويقول: "بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل، وهو بحر طبرية. وتبعه جمع كثير لأنهم أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى. فصعد يسوع إلى جبل وجلس هناك مع تلاميذه. وكان الفصح، عيد اليهود، قريبا. فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعا كثيرا مقبل إليه، فقال لفيلبس: من أين نبتاع خبزا ليأكل هؤلاء؟ وإنما قال هذا ليمتحنه، لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل" (6: 1-6). وتشير هذه الرواية إلى موقع مجاور لبحيرة طبرية. وهذا الموقع هو بحسب التقليد قرية الطابغة، التي تقع على الشاطئ الشمالي الغربي لبحيرة طبريا، على مسافة 4 كم جنوب شرق كفرناحوم. وقد زارت احدى الحاجات إلى الأراضي المقدسة هذا الموقع في عام 383، وتُدعى إيجاريا. وكتبت في وصفه: "في مكان ليس بعيدا عن كفرناحوم، مقابل بحر الجليل، أرض مروية جيدا تنمو فيها الحشائش وكثيرٌ من الأشجار والنخيل. وتقع في هذا المكان الينابيع السبعة الوفيرة المياه. في هذا البستان المثمر أطعم يسوع خمسة الاف شخص مع خمسة أرغفة خبز وسمكتين". 
 
الأقدم في فلسطين
تُعتبر الحاجة إيجيريا أوّل من ذكر كنيسة في الموقع الذي تمّت فيه هذه المعجزة، ونقع على شهادات أخرى تشير إلى هذا الموقع في القرون التالية، غير أنه بقي مدفونا تحت الردم إلى أن قامت البعثة الكاثوليكية الألمانية في فلسطين بشراء قطعة الأرض التي تضمّه، وذلك في عام 1892. باشر المنقّبون الألمان بالبحث عن الكنيسة المطمورة منذ ذلك الحين، وكشفوا في عام 1932 عن أسس كنيستين شيّدتا في نفس الموقع. تعود الكنيسة الأولى إلى منتصف القرن الرابع، وقد خربت من جراء لزلزال الذي تعرّضت له المنطقة سنة 419، وقد شُيّدت هذه الكنيسة من جديد بعد توسيع مساحتها في سنة 488، وباتت مؤلفة من ثلاثة أروقة. كشفت أعمال التنقيب عن أرضية من الفسيفساء البيزنطية تُعتبر الأقدم في فلسطين، منها فسيفساء تعود إلى الكنيسة الأولى، وتمثّل مشاهد طبيعية مائية. وفسيفساء من طراز آخر تعود إلى الكنيسة الثانية، وتحوي لوحا يقع على مقربة من المذبح في الهيكل، وفيه تظهر سلة تضمّ أربعة أرغفة، تحوط بها سمكتان كبيرتان. ويُعتبر هذا اللوح من أشهر شواهد الفن البيزنطي في فلسطين.

خرج هذا الموقع من الظلمة إلى النور في ظل الانتداب البريطاني، وفي أيار/مايو 1948، قام الصهاينة بالاستيلاء على قرية الطابغة، وشتّتوا أهلها، وأقاموا على أنقاضها مستعمرة تيفيريا. في سنة 1982، شيّدت الكنيسة الكاثوليكية الألمانية في موقع "تكثير الخبز" الأثري كنيسة حديثة اتبعت الطراز البيزنطي، ونجحت في الحفاظ على أرضية الفسيفساء التي تشكّل موقع الثقل في هذا الموقع الاستثنائي. وفي نيسان/ابريل 2014، عمدت جماعة من الصهاينة المتطرفين إلى تدنيس هذه الكنيسة قبل زيارة البابا فرنسيس. وتكرّر هذا العدوان في حزيران/يونيو 2015 حيث تعرّض البناء للحريق على يد متطرّفين حرصوا على توقيع هذا الإنجاز بتدوين كتابة بالعبرية على أحد الجدران.

عنق الحصان
ارتبط اسم قرية الطابغة بمعجزة تكثير الخبز إلى أن ظهرت مؤخرا فسيفساء بيزنطية تغطّي أرضية كنيسة تقع في موقع مدينة هيبوس في الجولان. ويُعرف هذا الموقع كذلك باسم سوسيتا، وهو اسم آرامي يعني عنق الحصان، كما يُعرف عربيا باسم قلعة الحصن، وقد قام الصهاينة باحتلاله سنة 1948 حين استولوا على المرصد السوري المقام فيه، وبنوا مكانه موقعا للجيش الإسرائيلي، وأثارت هذه القرية الأثرية منذ تلك الأيام شهية علماء الآثار الذي دأبوا على استكشاف معالمها، وعثروا فيها على سبعة كنائس أثرية، منها كنيسة تحوي فسيفساء أثارت فضول كل العاملين في حقل الفن البيزنطي، وتُعرف باسم الكنيسة المحروقة. بنيت هذه الكنيسة بحسب أهل الاختصاص في منتصف القرن الخامس، وجرى تطويرها للمرة الأولى في النصف الأول من القرن السادس، كما أعيد تطويرها في النصف الثاني من القرن السادس، وبقيت على حالها كما يبدو إلى أن خربت جراء الغزو الفارسي الذي تعرّضت له فلسطين في مطلع القرن السابع. 

تتبع أرضية الفسيفساء التي تزيّن هذه الكنيسة الطراز البيزنطي التقليدي، وتتميّز بحضور سلة تحوي خمسة أرغفة يحوط بها من كل جهة جمع من الأسماك. ويتوافق عدد الأرغفة المصوّرة مع عدد الأرغفة المذكور في الأناجيل الأربعة، بخلاف سلة فسيفساء قرية الطابغة التي تحوي أربعة أرغفة فحسب. ومن هنا يطرح السؤال نفسه بنفسه: هل قام المسيح بمعجزة إطعام الجموع في الطابغة أم في هيبوس سوسيتا؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها