لا تحمل مخطوطة "المختصر في علم التاريخ" قيمة فنية، فهي في الظاهر قليلة الأوراق مجردة من أي زينة، لكنها عظيمة الأهمية، وتكمن قيمتها في مادتها الأدبية بالدرجة الأولى. صاحب هذه لمخطوطة هو محمد بن سليمان بن سعد بن مسعود الرومي البرغمي، الشهير بمحيي الدين أبو عبد الله الكافيجي الحنفي، المتوفى العام 1474. وُلد في بلاد صروخان التابعة لديار ابن عثمان الرومية، وأنصرف باكراً إلى العلم، ثم سافر إلى الشام، وحج ودخل القدس، ثم قدم إلى القاهرة المملوكية أيام الأشرف برسباي، والتقى هناك كبار العلماء، وبرز إماماً كبيراً في علوم الكلام وأصول اللغة، والنحو والتصريف والإعراب والمعاني والبيان، كما برز في الجدل والمنطق والفلسفة، فظهر علمه في زمنه، ووُلّي المشيخة برتبة الأشرف، ثم وُلّي أيضًا مشيخة الشيخونية حين تركها ابن الهمام، وانتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر.
تتلمذ على يدي الكافيجي عددٌ من الأئمة، أشهرهم جلال الدين السيوطي الذي ذكره وقال فيه: "كان الكافيجي شيخًا إمامًا من كبار العلماء في المعقولات كلّها: الكلام، وأصول اللغة، والنحو والتصريف والإعراب، والمعاني والبيان، والجدل والمنطق والفلسفة، والهيئة، بحيث لا يشقّ أحد غباره في شيء من هذه العلوم، أضف إلى ذلك أنه كانت له اليد الحسنة في علوم أخرى مثل الفقه والتفسير والنظر في علوم الحديث والتأليف فيه". "لزمته أربع عشرة سنة، فما جئته من مرة إلا وسمعت منه من التحقيقات والعجائب ما لم أسمعه قبل ذلك. وما كنت أعدّ الشيخ إلا والدًا بعد والدي، لكثرة ما له عليّ من الشفقة والإفادة، وكان يذكر أن بينه وبين والدي صداقة تامة، وأن والدي كان منصفًا له، بخلاف أكثر أهل مصر".
وكانت صالة "بونهامز" قد طرحت مخطوطة "المختصر غي علم التاريخ" في مزاد ضمن قائمة من المخطوطات الإسلامية، وسارعت إدارة "دار الكتب" إلى المطالبة باستعادة هذه المخطوطة، وقدمت المستندات التي تثبت ملكيتها لها، ومنها محضر إثبات فقد المخطوط المثبت قبل جردة العام 1976، وصورة لسجل تزويد دار الكتب بهذا المخطوط، وصورة من فهرس الكتبخانة الخديوية تذكر هذا المخطوط ضمن مخطوطات دار الكتب المصرية، وصور لصفحات من المخطوط عليها خاتم الكتبخانة الخديوية ورقم الحفظ، إضافة إلى شهادة من الدكتور محمد كمال الدين عز الدين الذى قام بدارسة المخطوط ونشره في كتاب العام 1990 بعدما اعتمده كأصل للتحقيق.
تشمل خاتمة هذه المخطوطة النفيسة سطوراً عديدة تشير إلى تاريخ فراغ مؤلفه من تحريره، ما يعني أنها كاملة غير منقوصة. كما انها تحمل اسم ناسخها "علي بن داود الخطيب الجوهري"، وهو من العلماء الذين شاركوا فى الكتابة التاريخية تأليفًا ونسخًا في زمن الكافيجي. لهذا، جهدت دار الكتب المصرية في المطالبة باسترداد هذه المخطوطة التي "سُرقت" منها قبل 1976، ونجحت في تحقيق هذا الهدف. عادت المخطوطة إلى الدار في 16 يوليو/ تموز الماضي، وتحدّث يومها رئيس "دار الكتب والوثائق القومية" هشام عزمي عن مراحل المفاوضات مع مسؤولي صالة "بونهامز" التي استمرت ثلاثة أشهر. بدأت هذه المفاوضات بعد الإعلان عن بيع المخطوط خلال نيسان/ أبريل، وتلتها نقاشات مع "صاحب" المخطوط الذي ادّعى حصوله عليه كميراث عن جده، وأدّى ذلك إلى إقناعه بملكية مصر له، فاستجاب إلى طلب الدار، وسلمها المخطوط، بحسب رواية هشام عزمي.
بعد فترة وجيزة، تكرّرت هذه التجربة مع مخطوطة أخرى باتت تُعرف بـ"مصحف الغوري"، وهي عبارة عن ربعة مصحف قرآنية مؤلفة 28 ورقة، تعود إلى زمن الملك الأشرف أبي النصر قانصوه الغوري الذي حكم مصر بين العامين 1501 و1516. كتبت هذه الربعة بخط النسخ بالمداد الأسود داخل إطار باللون الأحمر، وتبدأ من الآية 93 من سورة آل عمران، وتنتهي بالآية 23 من سورة النساء. وهي تعود في الأصل إلى "مسجد الغوري"، وقد دخلت "دار الكتب" في تشرين الثاني/ نوفمبر 1884 كما تشهد فهارس "الكتبخانة الخديوية"، يعود آخر ذكر لها في هذه الفهارس إلى نهاية القرن التاسع عشر، وتحديدا عام 1892.
تنتسب هذه الربعة إلى الفترة المملوكية التي ازدهرت فيها كتابة المصاحف المذهبة ازدهارًا عظيماً، وتميزت هذه المصاحف بخطوطها المنسوبة المدونة بخط المحقق، كما تميزت بأغلفتها المجلّدة المبتكرة. غير أن مخطوطة "مصحف الغوري" تشكّل نموذجاً متواضعاً في هذا الميدان، إذا انها تعتمد على فواصل أرباع مدوّنة بخط ثلث مائل، مسطرتها سبعة أسطر، وتنحصر زينتها المذهبة على فواصل الآيات، إضافة إلى صفحتي العنوان، وغلافها الجلدي متواضع للغاية. في المقابل، تستمد هذه الربعة أهميتها من نسبتها إلى آخر سلاطين المماليك، الملك الأشرف قانصوه الغوري، الذي اهتم بالعمارة وبإنشاء المدارس والمساجد، وقد أوقفت على مدرسته الكائنة في نهاية شارع المعز لدين الله الفاطمي، ومنها أحضرت إلى دار الكتب المصرية العام 1884، وظلّت فيها بالتأكيد حتى 1892، ولا نعرف ماذا حلّ بها بعد هذا التاريخ.
يحمل المخطوط ختماً يثبت وقفه على مدرسة قنصوه الغوري، وذكر رقمه العمومي في "الكتبخانة المصرية". كما يحمل ختماً ثانياً يحمل الطابع العثماني لكنه غير واضح، مما يرجّح أن المخطوط خرج من مصر خلال العهد العثماني. ظهرت هذه الربعة حين عرضتها دار مزادات "سوذبيز" للبيع في تشرين الأول/أكتوبر الفائت بمبلغ يتراوح بين سبعة وعشرة آلاف جنيه استرليني ضمن مزاد بعنوان "فنون العالم الإسلامي"، وقالت في تعريفها بها أنها حصلت عليها العام 1998 فحسب، وهي تحمل إشارة وقفية تقول بأنها اهديت في 25 محرم 909 هـ، الموافق لعام 1503، وقد نُسخت على الأرجح قبل ذلك بفترة قصيرة. نجحت السلطات المصرية في إثبات ملكية المخطوط واسترداده بالاتفاق مع دار المزادات و"صاحب" المخطوط الذي بقي اسمه مغيّبا، تماماً كما حصل مع "صاحب" مخطوط "المختصر غي علم التاريخ".
عاد المخطوطان إلى "دار الكتب والوثائق القومية" التي تملك أكثر من ستين ألف مخطوط، وتعمل حاليا على مشروع كبير لرقمنة هذه المخطوطات. ونأمل في أن يتحقق هذا المشروع في أسرع وقت. تُعتبر "دار الكتب المصرية" أول مكتبة وطنية في العالم العربي، وقد أنشئت العام 1870 على يد الخديوي إسماعيل بناءً على اقتراح علي باشا مبارك ناظر ديوان المعارف. هكذا نشأت "الكتبخانة الخديوية المصرية"، وكانت مهمتها الأولى جمع المخطوطات والكتب النفيسة التي كان قد أوقفها السلاطين والأمراء والعلماء على المساجد والأضرحة والمدارس، وتشكيل نواة مكتبة عامة على مثال دور الكتب الوطنية في أوروبا.
في العام 1904، انتقلت "الكتخبانة" إلى مبنى أنشئ لها في ميدان باب الخلق. وفي 1971، انتقلت إلى المبنى الحالي على كورنيش النيل عند رملة بولاق. وتعمل الحكومة المصرية اليوم على ترميم مبني دار باب الخلق وتطويره، تمهيداً للافتتاح خلال شهر شباط/فبراير المقبل.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها