الإثنين 2019/01/07

آخر تحديث: 12:09 (بيروت)

كليمان شنيدر: الثورة الفرنسية كما لم نرها من قبل

الإثنين 2019/01/07
increase حجم الخط decrease
ليس مبالغة القول أن فيلم كليمان شنيدر، "رغبة عنيفة في السعادة"، الذي تعرضه صالة واحدة في باريس حاليا (luminor hotel de ville) هو فيلم عن الثورة الفرنسية كما لم يرها المشاهدون من قبل. فلا يركن المخرج إلى سردها بالتأريخ أو بالتوثيق، لكنه يذهب إلى اقتفاء أثرها بعيداً منها، عن الرجاء الأساس لوقوعها ووقعها.


فها هي تحدث في منطقة جبلية نائية العام 1792، حيث يرتفع دير، يعيش فيه خمسة أو ستة رهبان، ومن بينهم واحد يدعى غابرييل (كانتان دولمير)، وهو يظهر في فاتحة الشريط على غصن شجرة زيتون، متفقداً ثمارها، قبل أن يعترضه عابر سبيل مخبراً اياه أن الثوار سيصلون إلى مطرحه، خالصاً إلى تحذيره بالقول: "تحضر، العالم القديم ينهار".

وبالفعل، ينهار العالم الذي ينتمي غابرييل اليه، لكن ليس بسرعة ولا بعنف، أي أنه لا يهبط فجأة، بل ينزل رويداً. وغابرييل ينزل عن الراهب إياه، وينزل منه، وعندها، يختلف عن نفسه، ويصير شخصاً آخر. فيصور شنيدر هذا النزول طوال فيلمه، عبر جعله يعتمل في غابرييل الذي يظهر بداية مدافعاً عن ذلك العالم، ثم منعزلاً عنه، وفي ما بعد، يبدأ بالالتحاق بجنود الثورة ببطء إلى أن يرتدي لباسها ويغدو منهم.

ورغم هذا التحول، حرصت الكاميرا على تثبيت محيط الراهب، الطبيعة التي تحيط به على وجه الدقة، والتي، وبدورها، تنتقل من كونها جذع زيتون إلى كونها جنة من الزيتون، ومن نور رتيب إلى لامع، ومن أرض الإمساك عن الرغبة إلى أرض افلات لها.


لكن نزول العالم من غابرييل لا يحصل لأنه، وعلى عكس رفاقه، يلتحق بالثورة، ويصير آمراً لجنودها أيضا. إذ إن هؤلاء، وعندما وصلوا إلى الدير، كانت "ماريان" معهم (غراس سيري)، وفي فتاة سوداء لا تتكلم. انتقال غابرييل وازاه اقتراب ماريان منه، ثم اقترابه منها. فعندما يقرر الجنود مواصلة طريقهم من الدير، لا يمضي معهم، كما أن ماريان لا تفعل ذلك أيضاً. يبقيان معاً في هذا المكان الحجري القديم، بعدما مرت به الثورة، فما كان منها سوى أن أوقعتهما في حب بعضهما البعض، بعدما حررت الأولى من أسرها والثاني من الوضع عينه.

وقعت الثورة في البعيد، إلا أن أثرها، وبسبب شدته، وصل إلى الدير، وأدى إلى وقائع مغايرة، محصتلها، أو عصارتها- بما أن لزيت الزيتون محلاً من إعراب الحكاية-هو وقوع الحب بين غابرييل وماريان التي سرعان ما ينفك بكمها. وكل هذا الحدوث، الذي ينهي عالماً ويفتح غيره، يعمد شنيدر الى تقديمه بالاستناد الى عدد من السبل السينمائية، لا يمكن غض النظر عن كونها جميعها تشترك في سمة محددة، وهي الإيجاز.

فلا إطناب في الفيلم، لا زوائد، بل يشرح نفسه بنفسه: من خلال الموسيقى التي تمحورت حول أغنيات من سبعينات القرن المنصرم. من خلال الحوار القليل الذي يقطع صمت الكنيسة والمنظر الأخضر حولها، والذي تقطعه نصوص مقروءة من "الفلسفة في المخدع" لساد، أو من "روح اليوتوبيا" لبلوخ، وغيرها. من خلال التمثيل الذي لا يفيض الانفعال منه. ومن خلال التصوير الذي يدور في مطرح لا ينصرف منه، لكنه يلتقط ضيقه ووسعه وتبدلاته، بحسب جريان الحكاية واعتصارها.

يظهر شنيدر الثورة الفرنسية بطريقته، التي لا شك في "بازولينيتها" (نسبة إلى بازوليني). لكن المحوري في هذه الطريقة، وفضلاً عن تقصيها حدثاً كبيراً في حدث صغير، وربطها بينهما بأسلوب مقتضب وشعري وخفيف، هو أنها، وفي نهايتها، تستخلص الحدثين، الثورة والحب، من زمنهما، وتجعلهما عاريين من أي حقبة. وتجعلهما عابرَين لأي حقبة أيضاً. ففجأة، يبدو أن الفيلم يدور في أيار1968، أو في أي وقت من أوقات التحرر الجنسي والاجتماعي والبيئي، أو الايكولوجي على العموم. 

لقد أفلَم كليمان شنيدر، الثورة، كأنها لا تزال مستمرة، من بعيد، في غيرها. وهذا ما يشير إلى علاقة أخرى مع ماضيها ومستقبلها، وحاضرهما. وهذا ما يذكر بجواب الرفيق ماو زيدونغ، على استفهام هنري كيسنجر الذي سأله مرة: "ما رأيك في آثار الثورة الفرنسية؟"، فردّ عليه: "ما زال من المبكر البتّ فيها".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها