الخميس 2018/09/27

آخر تحديث: 11:41 (بيروت)

قتل الصحافة الثقافية

الخميس 2018/09/27
قتل الصحافة الثقافية
increase حجم الخط decrease
لقرّاء الصحافة الثقافية اللبنانية أن ينتبهوا إلى موتها. ووضعها هذا، لا يتعلق فقط بكون الصحافة على عمومها في البلاد قد شهدت موجة إقفال، وهي لا تزال تهددها بمدها وجزرها، بل أيضاً بكون الكلام الثقافي لهذه الصحافة قد وصل إلى ذروته، أي التحول إلى جلبة المشهد الذي كان من المفترض أن يؤلف حديثاً فيه. 

فهذا الكلام صار نقّالَ المشهد الثقافي، مذيعَه الذي، وحين يكون فعالاً، يغدو ببساطة المروج له. وبذلك تحديداً، يتكشف عن كونه بلا لغة، لكنه ضرب من اللغو. لقد أضحت الرغبة الوحيدة للمتكلم الثقافي أن يتبوأ منصب "إعلامي" مشهده، الذي، ولكي يعلم عنه، لا يجد سبيلاً إلى ذلك سوى أن يعلن عنه، أن يصيغ إعلاناته. دور هذا الإعلامي، الذي كان صحافياً، أن يصيغ جاذبية المشهد، منتجاته على وجه الدقة، من خلال الإعلان عنها بقاموسه، بإحاطتها وحشوها بالعبارات التي لا يعود لقولها اي معنى من المعاني، بحيث أن هدفها الأول والأخير هو التسويق.

من هنا، من تحول الصحافي إلى مسوِّق يُدعَى إعلامياً، وصفحته صفحة اعلانات، تستحيل مقالته مجرد دعاية، يتكلم فيها لكي يصنع إغراء موضوعها عبر ربطه بخطاب ما. أكان خطاب التحرروية أو خطاب الانسانوية أو خطاب اليساروية... فيجعل منتج الدعاية، اي العمل الثقافي، هو المعبر النموذجي عن الخطاب. ولا يكتفي بذلك، بل يوهم بأثره ووقعه ونتيجته، يوهم بمفعوله الذي سيكون مهماً للغاية، كما لو أنه ثورة. إذ إن الإعلامي يريد أن يجعل من المشهد الثقافي حدثاً، ولا طريق إلى ذلك سوى أن يقدمه على متن الإسراف والجلبة. 
فحتى في خفضه صحافته إلى المستوى الإعلاني، لا ينجح الإعلامي في مزاولتها، بحيث تبدو، وعلى الدوام، كاريكاتورية. فأن يكتب عن مسرحية أو فيلم أو رواية، بأنها تشكل "مفصلاً" و"منعطفاً"، فهذا هو الإجراء المبتذل والسطحي في مجال الترويج، الذي تخطاه منذ زمن وصنع وسائل كثيرة غيره. بالتالي، الإعلامي هو مروِّج بالمعنى الابتدائي، وحالته هذه تتصل بأمر معين وهو تطفله على مهنة التسويق، على موقع شغيلها، لأنه في الواقع لا يدري ما دور صحافته.

فعلياً، هبوط الصحافة إلى مستوى الإنتاج الركيك للدعاية هو بسبب فقدانها لدورها، أو بالأحرى بسبب إفقادها لدورها، قتلها كمتحدثة في مشهد تتابعه، والاكتفاء بها كجثة تتكلم، لتعلن مرة تلو المرة أن المشهد اياه هو غرفة إنعاشها. ذلك أن هذه الصحافة-الجثة تسجل أنها لا تعمل لتحسين المشهد، لتنشيطه، لتحريكه، لاستبداله، بل تبقى عند المشهد لكي يبقى على حاله، ولكي يظل مأخوذاً بنزوع أساسي، يشكل محوره، وهو الرواج. العلاقة بين المشهد وصحافته؟ مشهد فارغ، تملأه الصحافة بعباراتها بعد تفريغها من معانيها لتصير قالباً لإذاعته، مطلقةً إياه. المشهد يحظى بانتشاره والصحافة تحظى بدورها، أو تفترض ذلك. ولا بأس أحياناً في أن يطمح ممثل في الأول إلى أن يكون إعلاميَّ الثانية، فينتج شريط فيديو كريبورتاج أخباري، أو ينتج فيلماً كبرنامج تلفزيوني لدرجة إحضار مقدمي التلفزيون فيه ليصيروا بدورهم ممثلين. ففي المشهد، أو في صحافته، مكتوبة ومرئية ومسموعة، الجميع يتقاسم مع الجميع الحلمَ الهابطَ نفسه، حلم الرواج.

لا يمكن الأخذ بما تخبره الصحافة الثقافية راهناً عن هذا العمل أو ذاك، لا يمكن الوثوق في منظورها أو تصوراتها. وعندما تتمسك بانخفاضها، لا يمكن سوى تشجيعها على مزاولة هذا الانخفاض جيداً، وألا تتطفل على التسويق لأنه، وعلى عكس ما تظن حين تحاول تأديته، وعلى عكس حسبانها بأنه إجراء مبتذل، فهو بمثابة مجال قائم بذاته. وعندما تستمر هذه الصحافة في انخفاضها، لن تُحمَل سوى على إنتاج إعلاميّها/معلنها الذي يغتال آخر ما تبقى من قوامها، أي العبارات، فتصير خرساء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها