الأربعاء 2018/09/26

آخر تحديث: 11:47 (بيروت)

الفانتازيا الإسرائيلية عن المصري الطيب

الأربعاء 2018/09/26
الفانتازيا الإسرائيلية عن المصري الطيب
عبد الناصر يصافح صهره أشرف مروان
increase حجم الخط decrease
منعت الحكومة المصرية، العام الماضي، تداول كتاب "الملاك: الجاسوس الذي أنقذ إسرائيل" الذي يقدم رواية اسرئيلية ترى في أشرف مروان جاسوساً إسرائيلياً. لم تكتف الحكومة بالمنع، بل صادرت كل نسخ الكتاب من المكتبات. وتبنت موقفاً متشدداً متمسكة بالرواية الرسمية المصرية التي ترى في أشرف رجلاً وطنياً قدم خدمات جليلة، من دون أي توضيح عن طبيعة هذه الخدمات.

لذا حينما أُعلن بث فيلم "الملاك" الاسرائيلي مؤخراً في "نتفليكس"، كان الحماس والانتظار من جانب الجمهوري المصري أملاً في فيلم ينكل بالرواية الرسمية المصرية ويفضح تناقضها. لكن الجمهور المصري خاب أمله في الفيلم، وذلك لسببين:

- أولاً، أن الفيلم لم يقدم أشرف مروان كجاسوس إسرائيلي، بل صدم ذلك الجمهور بالتصور الفانتازي الاسرئيلي عن المصري الطيب. وهو تصور بعيد تماماً من وعي الجمهور المصري، ومغاير لكل ما يقدم لهم عن اسرائيل والعلاقات معها.

- ثانياً، أن الفيلم لم يُصوَّر في مصر، وغابت عنه المشاركة الفعالة لأي عنصر مصري. وذلك بسبب المقاطعة الفنية بين البلدين. فأي فنان أو سينمائي مصري قد يشارك في فيلم مثل هذا، قد ينتهي به الأمر مرفوضاً من النقابة، ومنبوذاً من الوسط. لذا حفل الفيلم بعشرات التفاصيل التاريخية الخاطئة التي أخذ الجمهور المصري في التقاطها وتدوالها، دلالة على ركاكة الفيلم.
لكن مَن قال إن الفيلم أصلاً مصنوع للجمهور المصري!


الفيلم إنتاج إسرائيلي، معروض في موقع وشبكة أميركية. ورغم أن معظم أبطاله عرب ومصريين، لكنهم يتحدثون الإنكليزية مع بعضهم البعض، بينما تحضر العربية والعبرية أحياناً بشكل فولكلوري. الفيلم رواية إسرائيلية يقدمها صناعه للمُشاهد العالمي الغربي بالأساس. تقدم إسرائيل سرديتها عن الحرب والسلام والشرق الأوسط الذي يحتوي على مجانين مثل القذافي، وعاقلين مثل السادات وأشرف ومروان.

على مدار عقود طويلة، قدم التلفزيون والسينما المصرية عشرات الأعمال التي تناولت الصراع مع إسرائيل. وهي أعمال بالطبع كانت تمر عبر الفحص الأمني والرقابة العسكرية الصارمة، ولخدمة أجندات معلنة. لكنها بالأساس تتوجه إلى الداخل، إلى الجمهور المصري.


حفلت هذه الأفلام بالصور النمطية المضحكة دائماً عن الاسرئيلي ذي الأنف المعقوف الذي يقول "يا خبيبي"، ويخفي أكثر مما يظهر. لكن الأهم أن إسرائيل في السردية المصرية هي كتلة واحدة. لا اختلافات بين غولدا مائير وبيغن، لا صقور أو حمائم. الاسرائيلي في السردية المصرية هو عدو دائم يدبر المؤامرات دائماً للمصري والعربي الطيب الذي لا يفعل شيئاً سوى الدفاع عن نفسه وتلقي الضربات. ولا أدل على ذلك من السردية التي تُقدَّم بها هزيمة 67 كنتيجة للخداع الاسرائيلي، بلا أي إشارة إلى الدور المصري في إغلاق مضيق تيران وصنافير على إسرائيل، أو أن مصر هي التي طلبت انسحاب الجنود الدوليين من سيناء وكانت على أهبة الاستعداد للحرب.


حتى بعد إقرار السلام بسنوات، ما زالت السينما المصرية تنتج أفلاماً مثل "ولاد العم"، حيث يقرر ضابط مخابرات إسرائيلي أن يخدع سيدة مصرية ويتزوجها وينجب منها، ثم يخطفها إلى اسرائيل، بلا سبب، إلا الطبيعة الخبيثة للاسرائيلي الشيطاني. ففي السردية المصرية، حتى لو مر أكثر من ربع قرن على السلام، فالاسرائيلي خبيث يتآمر على المصري الطيب.


ثم تأتي أفلام مثل "زيارة الفرقة" أو "فالس مع بشير" وأخيراً "الملاك"، لتثير الاضطراب لدى المشاهد العربي والمصري. فعلى العكس من فانتازيا الحرب التي تقدمها السردية المصرية، تقدم الأفلام الاسرائيلية دائماً فانتازيا السلام، حيث الجندي الاسرائيلي يدهس بدبابته الورود في "فالس مع بشير"، بينما يغني للبنان الحزينة ويتأسف لما يفعله.

في هذا السياق تأتي قصة أشرف مروان لتمنح صنّاع السينما الاسرائيليين الفرصة لإشباع كل الفانتازيات لديهم عن السلام. أفلام مثل "الملاك"، بعيداً من التقييم الفني، تمنحنا الفرصة لنرى في المرآة الاسرائيلية مَن هو المصري في تلك المخيلة.

في الفانتازيا الاسرئيلية، القيادة المصرية ليست واحدة أبداً. فهناك ناصر العظيم كما يظهر في الفيلم، وهو يريد أن يبيد إسرائيل، وهناك القذافي المجنون الراغب في الانتقام من إسقاط اسرائيل للطائرة الليبية. وهناك النفعيون، أمثال أشرف مروان، أو السادات الذي يظهر في الفيلم بأنه على علم بما يفعله أشرف مروان لكنه يغض الطرف عنه.

المصري الطيب، أمثال أشرف مروان، يرى في الحرب خسارة للجانبين. ويرى أن السلام مكسب أكثر نفعاً. يظهر الفيلم أشرف مروان كجاسوس إسرائيلي، بسبب خلافته مع والد زوجته، جمال عبد الناصر، وبسبب طمعه وحبه للمال، لكن أيضاً بسبب سعيه إلى السلام.

السلام في الفانتازيا الاسرائيلية، ليس حالة طبيعية تسعى إليها الشعوب المتقاتلة، بل حالة اقتصادية ربحها أكبر من الحرب. ربما لهذا، حينما تكون كلفة الحرب أقل من كلفة السلام، كما في الحالة الاسرائيلية-الفلسطينية، تفضل إسرائيل استمرار الحرب.

بهذا المنطق، فالعرب والمصريون الذين يفكرون بالمنطق المادي للربح والخسارة، هم رجال السلام، المستعدون لتقاضي المال في مقابل تسليم المعلومات للجانب الاسرئيلي. ثم، في مشهد النهاية، حينما يلتقي أشرف بضابط الموساد في الثمانينات بعد إقرار السلام، يقول له: "كلانا خدم بلاده على طريقته"، معتبراً أن ما قام سابقاً وتقاضى مقابله المال، هو خدمة لبلده مصر.

المصري الحبوب كذلك، مستعد للتضحية بأي شيء في مقابل حبه للسلام والفلوس. فحينما ترى زوجته وحبيبته، صوراً مزيفة له وهو يحتضن الممثلة دينا والاس، في واحدة من عملياته الجاسوسية لصالح السلام، تتركه الزوجة الوفية منى عبد الناصر. وينتهي الفيلم بأشرف مروان وحيداً، وقد خسر حب زوجته، مع الإشارة إلى وفاة أشرف الغريبة، إذ رُميَ من شرفة مبنى في لندن. لكن، حتى بعد ذلك، تظهر لنا في نهاية الفيلم، صورة أشرف مروان وتحتها عبارة أنه الشخص الوحيد الذي يعتبر بطلاً في الجانبين المصري والاسرئيلي.

أشرف بالتأكيد بطل مناسب لذلك الزمن، مهما كره الكارهون. فالنموذج الذي يقدمه أشرف هو النموذج السائد الآن لرجال أعمال الصفوة الذين ينجزون صفقات الغاز بين مصر واسرئيل،  أو اتفاقيات الكويز للتصنيع المشترك بين مصر وإسرئيل. هؤلاء الذين رأوا في السلام فرصة للربح والبزنس أكثر من الحرب، لا كمحطة تعايش نهائية تأتي بعد استرداد الحقوق المهدورة.

انزعج كثر من المشاهدين المصريين من فيلم "الملاك"، لأنه لم يظهر أشرف كخائن في النهاية. لكن من قبره، يخرج أشرف لسانه. فمهما طعن في وطنيته الناصريون أو محمد حسنين هيكل، ها هو النظام والعالم الجديد بمنظومة قيمه الوطنية يدافع عنه، ليس فقط بإصدار البيانات أو تكريمه في مصر وإسرائيل، بل بإصدار الكتب والأفلام وحفظ سيرته كنموذج للعالم الجديد الذي تشكل بعد السلام مع إسرئيل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها