السبت 2018/09/01

آخر تحديث: 12:14 (بيروت)

عن مفقودين آخرين أيضاً

السبت 2018/09/01
عن مفقودين آخرين أيضاً
أم عزيز، عميدة أهالي المخطوفين (تصوير : علي سيف الدين)
increase حجم الخط decrease
ثمة نوع آخر من المفقودين في البلاد. وهم، تماماً كالذين خطفتهم الحرب وسلطاتها الحزبية، يعيشون معنا، أو بالأحرى نعيش معهم، مثلما أننا، في الأساس، منهم، بحيث يشكلون، وفي غالبيتهم، مجموع أمهاتنا وآبائنا. هؤلاء تعرضوا لإخفاء قسري وغير معلن أيضاً. ذلك أن الحرب، وحين انتهت، وانقلبت إلى سِلم، رمتهم خارجه، فبقوا على طرفه، ولم يعرفوا كيف يمضون حياتهم في مطرحهم المستجد، حيث لا معارك ينخرطون فيها، ولا يوميات مألوفة تستوي على عمل وإجتماع مثلاً، يحاولون تدبيرها. فقد كانوا وبقوا بين الحرب التي توقفت، والسِّلم الذي لم يستضفهم. وبهذا، اجتاحهم إحساس خاسِري ماضيهم والمطرودين من مستقبلهم، إحساس مَن لا يرغب فيه أحد: الوحشة، الغربة، والنهم لأي شيء يخفف منها.


في الأغنية التي أطلقتها "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين"، بعنوان "لا ضليت ولا فليت"، هناك عبارة "مش كل يلي بقيوا ضلوا". وهذه العبارة لا تذكر بالمفقودين والمخطوفين، بقدر ما تحيل إلى مواطني الوحشة هؤلاء. فهم، تحديداً، الذين "بقوا" لكنهم لم "يظلوا". كما أن سؤال "أين هم؟" ينسحب عليهم، إذ يصح طرحه حولهم. فهم بلا "أين"، بلا أي مكان محسوم المعالم والركائز والوجهات. من انعدام مكانهم، راحوا يبحثون عنه، وجميعهم تقريباً لم يجدوه، وحتى عندما ظنوا العكس، واصلوا استدعاء السابق على وحشتهم، أي الحرب نفسها، التي أُخذت منهم، ولم يُعوَّض عليهم بغيرها. 

مواطنو الوحشة يقولون لنا أحياناً إن "الحرب كانت أحلى". يقولون لنا ذلك، نحن الذين أنجبونا كشكل من أشكال بحثهم عن مكانهم، وكشكل من أشكال جعلنا إشارة إلى أن هذا المكان ليس محالاً. يقولون ذلك، وفي حسبانهم أنهم يعالجون خسارتهم لمكانهم، بلا حصولهم على أي مكان، طالبين منا أن نجده. لكننا أيضاً، لا نقدر على هذا. فقد أورثونا خجلاً كبيراً من كونهم أحبوا الحرب لفترة طويلة، وحين توقفت، رمتهم، تاركةً إياهم من دون أن تحملهم إلى ما تلاها. نقلوا لنا الخجل من أنهم إرتاحوا إلى مكان لفظهم، وحتى عندما اهتدوا إلى مكانٍ ثانٍ لم يستقبلهم، بسبب الخجل من كون كل ما فعلوه ذهب سدى، وأن لا مجال ليفعلوا أي شيء من بعده.

لقد كان مواطنو الوحشة مقاتلين. لكنهم، لما انتهى القتال، صاروا مبعدين، حتى صاروا لا شيء. وعندها، لم يتحولوا إلى مفقودين، إذ لم يكونوا موجودين. كانوا بين الوضعين، ولم تستفقدهم أحزابهم ولا مجتمعاتهم. فتمرسوا في الإنزواء، الذي لا يقترب من الانعزال، بل يشبه التهالك. انسحبوا إلى زواياهم، على أطراف السِّلم ونظامه. وهناك، شرعوا في العيش كأنهم مجبرون عليه. كأنهم، في قلوبهم، يعرفون أنه ليس من اختيارهم، وليس مبتغاهم. لكن لا بأس، طالما أنه لمن سينجبونهم، لمَن سينقلون لهم كل الخجل من ماضٍ انقضى، مستهتراً بهم، ومستقبل موصدة أبوابه أمامهم.

القاسي في حكاية مواطني الوحشة، أن أحداً لا ينتظرهم، لأن أحداً لا يلاحظ إخفاءهم أو يطالب بوجودهم، لا سيما أن الحديث الذي ساد حول حربهم يؤدي إلى رمي مسؤوليتها على عاتقهم: هم مرتكبوها، وحين أخذ السلم محلها، خانتهم، وجعلتهم من تعسائه. فقد خذلت الحرب، مواطني الوحشة فجأةً، فأصبحوا بؤساء السِّلم. ومن سماتهم أنهم يرون في الإقلاع عن التحرك، في التجمد، سبيلاً إلى بلوغ مكانهم الذي - بالفعل - لا وجود له. لم تبتلع الحرب مواطني الوحشة كلياً، ولم تنقلهم إلى السِّلم، لم تحولهم إلى مفقوديها، ولا إلى مواطنيه. كانوا وقودها، لكنها في لحظة ما، قررت أنها لم تعد تريد أن تشتعل، فأطفأتهم. مواطنو الوحشة ضحايا الحرب، ومفقودوها أيضاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها