إزاء تلك اللحظة التي تجزّ فيها آلات بلاد الرافدين أعناقاً على وقع كلمات يا حادي العيس، ستتوالى مشهديات متعددة لحلا عمران التي تستعين تارةً بعبارات ابن عربي وتارةً بالموروث الشعبي من اللطميات الكربلائية والندبيات كـ"دللول" و"ان رحت أنا أبقى وحدي". تارةً أخرى، تتقمص عشتار آلهة الحرب والحب والخصوبة التي نزلت الى العالم السفلي لإعادة احياء الموتى. تقف عارية الصدر وترفع يديها الإثنتين ويمتثل، في إحدى اللحظات، الموسيقيان تحتها كأسدين في إحالة تذكر نوعاً ما بتمثال عشتار الأثري.
مذهل أداء حلا عمران الصوتي. في مكان ما، صوتها "يخزق" الروح، يفتّت الجلد. ومذهل أكثر هذا الإختزال الحركي الذي ارتآه علي شحرور طوال عرضه الراقص. اشتغل على الحزن وفكك مواقعه بين جستوس حركي وبين ايماءات صوتية وبين كلام شفهي وبين أنين آلات الموسيقى. للصوت هنا غلبة الحزن، الأمر الذي يتيح لأي أداء حركي أن يصبح أكثر بروزاً خاصةً حين يختار المخرج أن ينتقي القمة الحركية من فعل ما ويضعه في سياق تصاعدي درامياً. هذا الخيار يحوّل رقص علي الى كاميرا تلتقط اجتزاءً حركياً من طقوس الرقص والحداد في المنطقة، ويشتغل عليها لتصبح ذات دلالات قصوى. ويشمل، في هذا السياق، بحثُه على تقنية الحركة منطقةَ الكتف، وهي منطقة كثيراً ما يستخدمها أهل المتوسط وبلاد الرافدين في لغة الجسد عموماً وفي الرقص على وجه الخصوص.
الكتف هنا يحيل الى اثبات الذات، الرجولة والبسالة والضعف في الوقت نفسه: حيث أن الكتف هو الموقع الذي يُرمى منه سلاح الصيد أو غيره وهو مؤشر على قوة بنية الجسد، هز الكتف أو رفعه هو أيضاً في مكان آخر تعبير عن الإذعان والعجز. وهذا التناقض يوحي بمعضلة العرض: عجز الرجل المحارب البطل أزاء حتمية الموت. مهما كبرت البطولات وصولات الحروب، عندما يأتي الموت لن يبقى من البطولة الا دموع الأمهات اللواتي يروين بطولات أولادهن ومحاولاتهن المتواصلة لإعادة بعثها، تماماً كما حاولت عشتار أن تعيد الأموات من العالم السفلي، وتماماً كما فعلت مثيلتها في مصر القديمة أم النساء النواحات الآلهة ايزيس التي حاولت أن تعيد إحياء زوجها أوزيريس.
كذلك، اتخذ شحرور للجسد موضعاً قلّما يعتمد: كيف من الممكن لجسد في حالة الموت أن يرقص وهو متحد بكليته بشكل أفقي مع الأرض؟ هو جسدٌ يحاول العودة الى التراب ولكن الموت هنا حالة غير مكتملة اذ أن صاحب الجسد غير قادر على الإنفصال والنزول الى العالم السفلي. هو جسدٌ بكليته، بجموده يرقص وجعاً وعذاباً على وقع نواح الأم الثكلى حتى تنهي تلك الأخيرة طقوسها وتفقد نفسها كلياً... في المجال العام: هنا تنتقل حلا الى فضاء الجمهور وتدخل في حالة وجدٍ وهي تردد لدقائق كلمة واحدة "يا الله" وتزعق وتصرخ... هنا يصبح الحزن طقس عزاء وسط الجماعة.
جسد علي الممدد على الخشبة المتحد مع الأرض يدور كالساعة ويقف تدريجياً على وقع موسيقى تزيد انفعالاً قبل أن تتوقف بعد أن يُنهَك الموسيقيون أيضاً من العزف.
نظرة أخيرة بين حلا وعلي.. قبل أن ينتهي العرض بابتسامة علي الغامضة. هو مرور الموتى والأحياء معاً في كافة مراحل طقوس الحداد. يستطيع الموتى الآن أن يستكينوا.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها